أحيانًا لا يتوقع الإنسان مواقف معينة من الممكن أن تحدث في حياته، أو من الممكن توقعها ولكن تكون غائبة عنه ولا يعرف متى سوف تحدث وكيف وأين، ولكن يظل متوقعها أي ما تكون.
أحيانًا يتمنى أن تحدث وأن لا تحدث في ذات الوقت، و ما لا نعرفه أننا لا نستطيع تغيير القدر لكن من الممكن تغيير الواقع حسب الموقف وقتها كيف سيكون، مهما فعلنا ما يحمله الله لنا هو فقط ما سوف نراه، ومهما قست قلوبنا مصيرها يوم وتلين .بعد فراق دام أربع سنوات تلاقوا من جديد، شعر بأن قلبه ليس بمكانه منذ إن رأى حب حياته أمام عيناه، لم يكن مصدق عيناه كأنه يحلم، شعر بأن ذكرياته معها عادت من جديد مثل شريط السينما .
هي كانت صدمتها كبيرة عندما رأته بعد غياب، حب عمرها أمام عيناها، كثيرًا ما كانت تتمنى هذه اللحظة، ولكن خوفها من مصيرها المجهول جعلها تهرب من مواجهته، لأنها وقتها لا تعرف رد فعلها ماذا سيكون بالضبط .دخلت شاهي المشفى حاملة على ذراعها طفلة صغيرة، جلست على مقعد الانتظار أمام غرفة الكشف منتظرة دورها، ممسكة بهاتفها محاولة طلب رقم.
في ذات الوقت دخل جاسر المشفى بصحبة رجل وأمرأتين، حاملًا طفل على ذراعه هو الآخر، يبحثون عن مقاعد فارغة، مقتربين ناحية شاهي ولم يروا بعضهم إلى هذا الحين .
بدون أي مقدمات تقابلت أعينهم، مفاجأة غير متوقعة رؤية بعضهم البعض بعد تلك السنوات، لم تتوقع شاهي أن تلتقي به ولو صدفة رغم تمنيها لذلك أحيانًا في لحظات شرود عابرة، ولكن تعود لرشدها مرة أخرى لتتذكر ما حل بها.
تفاجئت صفاء برؤية شاهي بعد هذه الفترة الطويلة، تأكد أحمد من تجلس أمامه هي بالفعل شاهي لن يخطأ بها أبدًا، لتبتسم ياسمين عند رؤيتها لتتنقل ببصرها نحوها ونحو جاسر في ترقب شديد، تعجبت من نظرات أخيها المليئة بالشوق والصدمة في آنًا واحد .
تخشبوا ولم يعرفوا ماذا يقولون، فقط صمت رهيب دام عشر دقائق، إلى أن هتف جاسر بذهول:
- مش معقول !! ازيك يا شاهي؟
وقفت شاهي وأنزلت الصغيرة لتبقى بين يداها، حاولت أن تواري صدمتها ولكن تعبيرات وجهها ونظرات عيناها آبت عن ذلك، شعرت لوهلة بأن مشاعرها سوف تنجرف نحوه حين رؤيته ولكن تماسكت وحاولت أن تتسم بالهدوء والبرود الخارجي :
- الحمد الله يا جاسر كويسة
رأى طفلة صغيرة كفها متشبث بكفها، أدرك على الفور أنها أبنتها وإنها بكل تأكيد تزوجت بعده وهذا شيء طبيعي، شاهي فتاة جميلة وصغيرة لماذا تنتظر كل هذه السنوات بدون زواج .
سألها بنبرة لا تحمل سوى الحزن :
- بنتك دي ؟
تجمعت اللآلئ في مقلتيها فتماسكت حتى لا تفر منها هاربة، نظرت لها بألم ثم ردّت بنفس الهدوء بعدما توقعت ما جال بخاطره:
- ايوة .. ليلى بنتي
ابتسم جاسر بألم وكسرة، كانت لو تتمنى أن تراهم قبل الأربع سنوات الماضية لتبرد نارها قليلًا وتشفي غليلها، ولكن كل شيء بأوانه وها قد جاءت عدالة السماء، ليردف بنبرة نادمة :
- ربنا يخليهالك
اصطنعت شاهي ابتسامة هادئة:
- يا رب
لا يعرف ماذا يقول، لا يريد أن ينقطع الحوار بينهم هكذا، فسألها ببلاهة:
- بتعملي إيه هنا ؟
ردت شاهي بعدما أنحنت وجست بيديها جبهة ابنتها الصغيرة وقالت بتلقائيتها المعهودة:
- ليلى سخنة أوي جاية أكشفلها
ظل ياسر ينظر ليها كثيرًا بحب وحزن وشوق متلهف، لتتعمد هي بتجاهله وعدم الأكتراث لنظراته، فهي لم تعد تعني لها شيء الآن ليقطع الصمت صوته:
- اتغيرتي أوي يا شاهي
ابتسمت بحزن وتهكم كبيران ثم أردفت ساخرة:
- لسة زي ما أنا بس في حاجات في حياتي هي اللي أتغيرت
فهم جاسر ما ترمي إليه ليبتسم لها بحزن لما شعر به من نبرتها، فأراد تغيير الحوار:
- وأنتِ عاملة إيه ؟
فضول شاهي يلح عليها معرفة هوية هذا الطفل التي يحمله جاسر على ذراعيه، فجال في خاطرها ذات ما جاء في خاطره هو الآخر، فردت بترقب :
- أنا كويسة .. واضح إنك عشت حياتك كويس.. ابنك ده يا جاسر؟
فهم جاسر ما ترمي إليه جيدًا، ولكن على يقين بأنها لا تعرف إنه لم يفكر في الزواج بعدها:
- لا ده أبن ياسمين..أنا متجوزتش يا شاهي .. واضح إنك تخطيتي كل حاجة بسهولة وبقى عندك بنت
اندهشت لسماع ذلك ولم تظهر فقط أومأت برأسها، كادت أن تردّ على جملته الأخيرة، أرادت أن تقول أن تلك الفتاة ليست كما تظن ولكن شيئًا ما بداخلها منعها عن ذلك، لتخرج الممرضة من غرفة الكشف منادية :
ـ ليلى جاسر .. يا مدام دورك
خفق قلبها وأغمضت عيناها في ألم، لم تكن تريد ذلك على الإطلاق، ليس لديه الحق لمعرفة أي شيء حدث معها في السنوات السابقة وهو بعيد عنها، ولكن ما حدث لم تعده في الحسبان، قد حان وقت المواجهة بينهم وعرف الحقيقة التي طالما أخفتها عنه لأنها ترى بأن لا يستحق المعرفة كنوع من العقاب على ما بدر منه .
تخشب جاسر ولم يعُد يفهم شيء مما سمع لتوه، أمعقول أن تكون تلك الطفلة أبنته؟! لو كان صحيح فكيف ؟ .. صاح بشاهي بغير استيعاب وفهم وذهول:
- إييه !! بنتي؟!
انسدلت الدموع من مقلتيها هاربة رغم عنها، لم تستطع أخفاهما أكثر من ذلك، فقط فكت أسرها وجعلتنها تنساب بحرية لعلها تحرر ما تبقى من روحها حبيسة الحزن والأوجاع، لتقول بجمود ونبرة عتاب مختلطة بدموعها التي أغرقت وجنتيها:
- ايوة بنتك
لم يصدق جاسر لما سمع، لم يستوعب تلك الكلمات نهائيًا، وجالت كل الأسئلة تطرق عقله بشدة، كيف تكون أبنته؟ .. نفى كل شيء في الوقت الحالي فقط جث على ركبيته وبسط ذراعه في الهواء كدعوة منه لضمها بين ثنايا صدره، تعجبت ليلى من رد فعل هذا الغريب لتنظر لوالدتها بتساؤل ماذا عليها أن تفعل، وبتلقائية سحبت شاهي ليلى خلفها كي لا يقترب منها جاسر وأرمقته نظرة تحذيرية، لتجد ياسمين تومأ لها برأسها موافقة خلفه وبعد تردد تجعله يقترب من ليلى ويضمها إلى صدره، وبكل حب وشوق ضم الصغيرة وأغمض عيناه وهو يستنشق عبيرها الخلاب، يمسد على شعرها البني التي ورثته عن أمها، ضمها إليها بشدة وأنسحبت عبرة من قلتيه تحمل الكثير والكثير، ألم .. حنين .. شوق .. لهفة، لم يتوقع بأنه لديه أبنة بهذا الجمال من شاهي، تلك الحسناء التي خطفت قلبه منذ اللحظة الأولى لرؤيتها، لم يكن يريد الأبتعاد عنها، ورغمًا عنه أبتعد وهي تنظر له في غرابة من يكون هذا الغريب يا ترى؟.
وقفت ياسمين تشاهد الموقف في صمت تام، فقط عبراتها الحارقة هي التي كانت تتحدث، شفقت على أخيها على الرغم معرفتها بأنه سبب ما وصل إليه الآن، ولكن فهو أولًا وأخيرًا أخيها والأهم من ذلك أب حُرم من طفلته ولم يكن يعلم بوجودها، رفعت عيناها ونظرت لشاهي التي تقف وقلبها يعتصر ألمًا، فقط تنسدل دموعها على وجه لا يشع سوى الهدوء والجمود الشديدين، شعرت بها وألتمست لها العذر، فما مرت به لم يكن سهلًا على الإطلاق .
نظر جاسر لشاهي بصدمة وعدم استيعاب حتى الآن، دون البوح بأي كلمة كلًا منهم، فقط المشهد يسير في صمت شديد، لتقطعه صوت الممرضة بعدما كانت تشاهد بعدم فهم لما يحدث حولها :
ـ يا مدام أتفضلي دورك
سحبت شاهي ليلى من بين يديه بهدوء ودخلت غرفة الكشف، كأنها سحبت منه روحه بعدما استعادها، تركته شاهي في ذهوله وحيرته، مسحت صفاء عبراها كانت تشعر بأن هذا اليوم قريب وسوف يأتي لا محال ولن يصدق ما يحدث، ولكن على يقين أن السؤال الوحيد الذي يدور في عقله كيف لليلى أن تكون أبنته؟ .
خرجت شاهي من غرفة الكشف وكان جاسر في إنتظارها ليجد إجابة على كل التساؤلات، فهتف بذهول وعدم فهم :
- بنتي! .. بنتي ازاي يا شاهي ؟
ابتسمت شاهي بمرارة وأجابت بصوت يحمل الكثير من الألم ووجها لا يزال يتسم بالجمود:
- أنت مكنتش تعرف أصلًا إني حامل
حدق فيها جاسر بذهول:
- إيه حامل ! مش معقول أنتِ متجوزتيش؟
ابتسمت بوهن وقالت بسخرية عارمة:
- ﻻ .. ماشاء الله عليك قفلت نفسي عن الرجالة للأبد
كأنها طعنت سكين بارد في صدره، تعلم أنه توجع وهذا ما كانت تريده أن يذوق ما ذاقته من مرارة وكسر قلب من قبله، لهتف بعتاب:
ـ وليه مقولتليش ؟ ليه خبيتي عليا يا شاهي لييييييه؟
لا تصدق سؤاله مما جعلها تثار وتنتفض مثل البركان الهائج ليطلق حممه محرقًا جميع من حوله في لحظة غضب وبكل انفعال:
- جرحتني وشكيت فيا .. حتى مسبتليش فرصة واحدة أدافع بيها عن نفسي كأنك رافض تسمعني .. في اليوم ده كنت راجعة من عند الدكتور وأنا في قمة فرحي وسعادتي بعد ما قالي إني حامل.. رجعت من الدكتور عشان أبلغك بسرعة لكن للآسف كسرت قلبي وقتلت فرحتي ..
ألتقطت أنفاسها ثم أستأنفت:
ـ بعد ما حصل اللي حصل شكيت فيا قتلت كل حاجة حلوة جوايا قلت مش لازم تعرف إني حامل متستاهلش إنك تعرف حاجة .. بعد شكك وقسوتك ورفضك إنك تسمعني وطلقتني.. أنا عملت إيه لكل ده عملت إيييييييييييه؟!!!!
اقتربت ياسمين من شاهي محاولة منها أن تهدأ من روعها، ربتت على ظهرها فلم تتحمل السكوت أكثر من ذلك، قررت أن تتدخل لتضع حد عن هذا الظلم المرير، بعدما وجدت جاسر في حالة ذهول وشرود يجب أن يستعيد وعيه الذي فقده منذ سنوات في ذات الليلة التي أنتقم منها أشد أنتقام، فصاحت بحدة وحنق:
- كنت عايزها تقولك عشان ماما تبخلك كلمتين في ودانك وتصدق بالمرة إن اللي في بطنها مش منك زي ما صدقت إنها خانتك ومش بعيد ده يكون من عشيقها مش كده ؟ّ! .. كنت في لحظة ممكن تصدق أي كلمة تتقالك في الوقت ده .. بخ السم مفيش أسهل منه يا جاسر .. في لحظة هدمت بيت وأسرة سعيدة بتتكون وحرمت نفسك من أكتر وقت كل راجل بيتمناه .. تعرف مين اللي دمر بيت وحياتك؟ .. عايز السبب ولا هتسد ودانك زي ما سديتها قبل كده ؟
صرخت بها شاهي وهي في حالة انهيار تام، تضع كلتا يداها على أذنها كي لا يتسرب المزيد إليها:
- كفاية ..كفاية يا ياسمين مش قادرة أسمع أكتر من كده
صاحت ياسمين مندفعة وبكل غضب:
-لا مش كفاية يا شاهي لازم يعرف الحقيقة ..هيفضل لحد أمتى يرفض يسمع.. ماما هي السبب يا جاسر
أتسعت عين جاسر بشدة، لم يستعب كلمة "ماما" كأنك سكبت دلو من الماء المثلج فوق رأسه، ليصيح بها بعدم تصديق:
- إييه بتقولي إيه يا ياسمين؟!
ياسمين بنفس النبرة استأنفت صياحها:
- بقولك الحقيقة اللي عامية عينيك .. ماما هي السبب في كل المصايب اللي حصلت .. طبعًا ده بعد الاتفاق مع هايدي بنت خالتك اللي قال إيه بتحبك .. خلوك تشك في مراتك وأنت كنت ودنك ليهم وقلبك أعمي عشان تطلق شاهي ويخلالها الجو معاك وتتجوزها مش كده يا ماما ؟!
توترت صفاء بشدة وأنجلى على قسماتها بشكل واضح، لقد كشف الأمر، كشف كل شيء كانت تخطط له منذ البداية ولا تعرف ماذا تفعل، فلن تجعل أبنتها تهدم كانت تنشأ من قبل، فصاحت بها في انزعاج وشدة كي توقفها عن هذا الهراء:
- إيه اللي بتقوليه ده يا ياسمين!! .. أنتِ أتجننتي في عقلك
ياسمين نظرت لصفاء بتحدي وحزم وقالت:
- لا متجننتش يا ماما أنا فوقت وعقلت .. لحد أمتى هخبي الحقيقة .. لحد أمتى اتفرج على بيت أدمر بسبب بنت اختك وحبك ليها وكرهك لشاهي .. عملتلك إيه شاهي عايزة أفهم .. بتعاملك زي أمها وبما يرضي الله .. ليه دمرتي أسرة سعيدة ليه لييييييييه !!
شاهي انهارت تمامًا ولا تصدق كل ما سمعته من ياسمين شقيقة طليقها، حماتها من خربت حياتها وهدمت ما بَنت من أجله، كانت تتحمل كلماتها اللاذعة من أجل جاسر ولكن لم تكن تتوقع أن هدم حياتها الزوجية والأسرية يكون على يداها .
أما جاسر فكان في حالة صدمة لا توصف، لم يتصور بأن والدته تكون بتلك البشاعة والقسوة لتدمر حياته، ألم تفكر فيه وفي ألمه قبل أن تخطط لتلك المكيدة الشيطانية مع أبنة خالته؟ ألم يجل في خاطرها بأنه يمكن يمتد تهوره لقتلها ويفقد مستقبل؟ ألم تفكر من الأساس ؟ حقًا لا يصدق ويحاول تجميع شتات نفسه ولا يستطع، كان هو وشاهي ضحية مؤامرة دنيئة ليس لهم ذنب، كان مجرد آلة تحركها صفاء كما تشاء وهو مثل الأبله يستجيب، ألتفت لها ودموعه هوت بكثرة وغزارة على وجنتيه ليهتف بصوت خافت من شدة الشدمة واللوعة:
ـ أنتِ يا أمي ؟! .. أنتِ اللي هدمتي حياتي أنتِ ؟!
لم تستطع شاهي التحمل والسماع أكثر من ذلك، صرخت بهم في انهيار تام:
- كفاية كفاية ..حرام حرام عليكوا بقى .. أنتِ إيه يا شيخة شيطاااااااانة .. أبليس في صورة ست .. منك لله
حملت الصغيرة على ذراعها وركضت سريعًا خارج المشفى، تلملم جراحها وصدمة عمرها، حاول جاسر اللحاق بها فلم يستطع بسبب سرعتها .
نظرت ياسمين إلى والدتها باشمئزاز وهي تبكي في صمت، لا توجد كلمات أو أحرف تقدر على وصف ما تشعر به، أما أحمد كان يشاهد ويستمع في صدمة لجمت لسانه وشلت حركته، تماسك قدر المستطاع، كان يعرف نصف الحقيقة وكفى بما سمع من الجزء الآخر المظلم، الأقذر على الإطلاق ...يتبع ..
ممكن لو حد قرا وهيتابع يحط اي حاجة .. شكرا
أنت تقرأ
نوستالچي
Romanceانقسام الروح إلى نصفين .. نصف يريد ونصف لا يريد نصف يقسو ونصف يحن ذنب لا يغتفر بسهولة وشك دس بيد الشيطان ليستسلم له جاسر بسهولة دون أن يسمع مبرررات من شاهي وكانت النتيجة عكس ما كان يتمنى .. فما ستكون النهاية ؟!