شراب الحب به لذة العاشق، رجفة المحب الذي يتذوق الرشفة الأولى بعد عناء الانتظار وشوقه؛ فتجعله يشعر كأنه جنين يتربع داخل رحم أمه، تتلاشى من حوله نقط الحياة القاتمة، تغرق روحه حتى القاع، مستمتعا بتلك المعزوفة التي يعزفها قلبه، حتى تأتي لحظة الصحوة تلك اللحظة التي يتجرع فيها كأسه إلى النهاية؛ فيفيق على مرارة تلك اللذة، بعد أن ارتشفها وذابت روحه داخلها
ينظر حوله، تتخبط روحه بعد أن سكنته وهدأت، ويسقط مستسلما لتلك الحياة التي ركلته في غفلة منه، يتذوقها، يمضغ ثغراتها بقلبِ لين، وروح طفل يتذوق مرارة العسل المر منتظرا أن تكافئه أمه بضمة تداوي بكاؤه.
خلعتُ عني رداء عائلتي وألقيت به بعيدا، وتجسدت لحظة لقائي بحسان لقانون جديد اسمه الحب
فقد كانت خطواتنا معا تُشبه الحاضر الذي يمثله حسان، والمستقبل الذي كنتُ أخطط له بعيدا عن أعراف العائلة التي نالت من فتيات بلدتنا، والتي حكمت عليهن بالنفي.
وصلنا أنا وحسان إلى إحدى المطاعم، وتفاجأت كونه مطعما فاخرا، لم أفكر يوما بذوق حسان في طريقة معيشته أو الإسلوب الذي يعيش به، ومع هذا يتمتع بذوقِ عال في اختيار ملابسه، ونظرتُ لملابسي وجدتها غير ملائمة للمكان،
فقط تنورة سوداء، وقميص زهري وشعر غير مرتب، كم كنتُ أبدو غبية، وأنا أسير جانبه أراه بتلك الوسامة وملابسه الراقية وأنا بتلك الهيأة المزرية، وكأنه قرأ أفكاري ووجدته يبتسم ويقول:
- لا تقلقي فأنت جميلة هكذا.
سقطت كلمته على قلبي كملمس يد طفل تتلمس أصابعه روحي، جعلني أنظر له متناسية كل شيء ما عداه، ودخلنا المطعم واستدعى حسان مدير المطعم، واكتشفتُ أنه حقا صديق له.
رحب بنا ترحيبا حارا، وكأنه يحتفل بنا وراح حسان يشير لأنواع عدة من الطعام، وزادت دهشتي من ذلك الأسلوب الذي يتحدث به حقا كان يٌشبه الأمراء.
تقدم بنا صديقه نحو إحدى الطاولات، وقد أمرهم حسان بتقديم أشهى أنواع المأكولات، وتم تجهيز كل شيء ثم رحل صديقه وتركنا سويا، وجلسنا نتناول الطعام، وطوال الوقت ينظر كلُ منا للأخر من خلف الكؤوس والأطباق، وكأننا نتبارز بالنظرات كمراهقين يفتعلان الأسباب الواهنة لرؤية بعضهما.
ومن بين الكلمات المتلعثمة أسرعت بعض الأحرف لتنطق:
- أنت وسيم اليوم.
ولا أعلم كيف انطلقت تلك الكلمات وأغمضت عيني كي لا يرى خجلي الذي بدا بين نظراتي، ووجدته ينظر لي ويبتسم.
ظللتُ أفكر بماذا أبدأ حديثي معه فقد تلعثمت الكلمات في حلقي مرتبكة، وبدأ الصمت يسير بيننا متطفلا.
ولم أنتظر كثير حتى طرقت عقلي آلة الهارمونيكا فوجدتني متسائلة:
- لماذا لم تخبرني إنك ذلك العازف الخفي؟
نظر لي بعد أن رفع كأس الماء متمتما:
- كان عليكِ أن تعلمي وحدك، فقد كانت كل مقطوعة منها تنادي باسمك.
توقفتُ عن تناول الطعام، بل شعرتُ كأن الطعام كاد أن يتوقف في حلقي، وتحولتُ لفتاة مراهقة يتصبب العرق من على جبينها، محاولة إخفاء احمرار خجلها أمام حبيبها.
شعر حسان بما فعله، وحاول تفادي الأمر كي لا يضعني في مأزق، وتدارك الأمر بسؤاله عن جامعتي
وماذا أفعل بعد محاضراتي، وصار الأمر أشبه بحديث عفوي، وكأننا نتحدث معا منذ سنوات.
مضى الوقت سريعا ولم نشعر بتلك الدقائق التي قفزت فوق حاجز الزمن لتسرق منا تلك النظرات سريعا.
قرر حسان الرحيل، وكم شحبت ملامحي، وكأنني لن أراه مرة أخرى.
وقبل أن نفعل وجدت شابا يقترب منا وهو مبتسم، التفت له حسان متسائلا:
- ماذا تريد؟
وإذا بالشاب يقترب مني واضعا يده على كتفي قائلا:
- كيف حالك يا شمس اشتقنا إليكِ؟
لا أعلم ما هذا الشعور الذي صار ينهش داخلي كجرافة تزيل روحي، ورأيت نظرات حسان تشتعل ككرة نارية تتحول بيني وبين الشاب.
وقفتُ وبنبرة جادة متسائلة:
- من تكون وكيف تعلم اسمي؟
- ماذا هل تمزحين، أنا تامر قريب ندى والتقينا في رحلة القارب منذ عدة أشهر
قذف حسان بمقعده إلى الخلف ووقف يزمجر بصوته حتى بدأ الحاضرون يصوبون أنظارهم إلينا
- هل جننت؟ أي قارب هذا الذي تتحدث عنه وكيف تُحدثها بتلك الطريقة وكأنكما صديقين؟!
شعرتُ أن الشاب قد بدأ يشعر بالتوتر وقال:
- اهدأ قليلا فأنا أعرفها، فقد قضينا يومين في رحلة على قارب صديقتها ندى وتعارفنا حينها.
عندما سقطت تلك الكلمة على مسامعي وأيقنت أنها نهايتي.
نظر لي حسان وللوهلة الأول شعرت إنه سَيُقدم على قتلي، فإذا به يقترب من الشاب ممسكا بياقة قميصه واقترب من أذنيه قائلا:
- عليك أن تكون ممنونا إننا في مكان عام، وما تفوهت به منذ قليل عليك نسيانه
وإلا ستكون المرة الأخيرة التي ستستمع فيها إلى صوتك.
عدتُ بضهري إلى الخلف واقترب مني حسان ممسكا بيدي، وتحولت نظراته الحانية لتلك النظرة الصعيدية
التي كنتُ أرى عمي ينظر لي بها.
قذف بي نحو الحائط وبلهجة غليظة:
- ما هذا الذي تفوه به هذا الشاب، من أين تعرفينه؟! وعن أي رحلة يقصد
حاولت أن اهدأ قائلة له:
- صدقني الأمر ليس كما يُخيل لك، نعم لقد كنت معه على متن ذلك القارب
وإذا به يضرب الحائط بكفيه ونظرات الغضب تتطاير من عينيه
- ماذا فعلتِ؟ ومتى حدث هذا؟ هل تعلمين ماذا سيحدث إذا علم أحد بالأمر
- صدقني لم يحدث شيء، فقط خرجت مع صديقاتي ولم أكن أعلم إن الرحلة يومان
أغمض حسان عينيه وكأنه أبغض النظر لي وقال:
- كيف تفعلين هذا؟ وأنا أين كنت؟! لقد حطمتِ ثقة والدك، كيف ستواجهينه بعد فعلتك تلك؟
- أنا لم أفعل شيئا يجعل أبي خجلا مني، خرجتُ لقضاء بعض الوقت مع ولم أعلم إنها يومين
وعليك أن تصدقني "فأنا تحدثت معه بشكلِ تلقائي ولم يحدث أي شيء يجعلني أخجل".
- ألستِ خجلة مما فعلتِ هل يمكنك أن تواجهين أهلك بهذا؟
- ماذا؟ هل تهددني؟ ... وبنبرة سريعة وغاضبة هل نسيت من تكون، إياك وأن تتعدى. حدودك معي فأنت لست سوى... حينها صمتُ فجأة وكأن نظراته لي كانت كالمطرقة التي أفقتُ عليها.