ظلام الندم

97 8 4
                                    

وحتى يكتشف الناس ما حصل ، سيبقى الحافظ يقص ، الراوي الأبدي ، الذي يروي الأبدية نفسها ، وبينما يتراقص الرجل الطويل ، الأسمر السمير ، ويبتسم ابتسامته الداهية ، يتجمع الأطفال وكأنهم يشاهدون عرضاً مبهرج ، ولكنه لبق وأنيق في الوقت نفسه ، عرضاً للحافظ نفسه ، يتوقف عن الرقص بطريقة مسرحية ، ويهتف "ها أنا ذا" ويسير في خطوات سلسة مع جسده الطويل المتمايل ، وبصوته الجذاب يتساءل بحماس "هل أنتم هنا من أجلي؟" ، وتعلو الهُتافات من كل مكان "نعم" ، ويبتسم بفخر ثم يتساءل عبر المكبر بطريقة هامسة "وهل تعرفون من أنا؟" ، وتعلو مرة أخرى "لاااا" ، ويضع يده على وجهه وكأنه في خيبة "لتستمعَوا إذاً ، استمعوا" ، وبوجه متقلص شديد التفاصيل وعيون حمراء دامعة يعرف عن نفسه بصوت كئيب "أنا مُحمد الحافظ" ، وتعلو الهُتافات "أوووووووو" ، ويصرخ الحافظ "ولكنكم لم تعرفوا من أنا" ، وتعلو الهُتافات "نعرف ما يكفي" وينظر لهم الحافظ ويتحدث بسخرية "أوه هل تعرفون!" ويعود ويقول "الآن يا أطفال الآن" وتتحرك الخيوط ويضرب الأطفال بأقدامهم على الأرض ، ويُقاطعهم "أحم ، أحم" ويتحرك على المسرح وإصبع يده الصغير داخل فمه ويصرخ أحد الأطفال "كساقطة حقيقية" فيشير اليه الحافظ ويحترق مكانه ويعم الهدوء.

يعود ويهتف الحافظ "الآن يا أطفال الآن" وتتحرك الخيوط ويصفق الأطفال وكأن حياتهم تعتمد على ذلك ، يبتسم الحافظ"الآن يبدو كعرض حقيقي ، عرض يليق بقصر الكلمات ، شكراً لكم ، شكراً" ، ويرقص الحافظ مظهراً حماسه للتصفيق الحار المصحوب بوجوه الأطفال الشاحبة والمتوترة "هل نروي القصة الآن ؟" ويهتف الأطفال "أجل" ويتوقف الحافظ بطريقة مسرحية ويقفز عن خشبة المسرح ليسير بين الأطفال "لتستمعَوا إذاً ، إستمِعوا".
ويتحول البشر ، يتحولون ، قيل الشاب عالم ، مُعدم وحالم ، قيل صاحب دار أيتام فصار حاكم ، قيل مسجون وخرج سالم ، دارت الأيام وعدوه صار صديق ، انقلبت الأحوال والمدعوم تحول لداعم ، أين نبدأ ؟ و أين ننتهي ؟ وماذا يجب أن نفعل بين هاتين النقطتين ؟ والأهم ، لماذا؟.

وتساءلوا جميعاً بطريقتهم الخاصة ، فرِحلة لأيطاليا والمعاشرة العنيفة لعدة ساعات مع شبح لم تكن كافية ، وربما لو مات برصاصة بدل نوبة قلبية ربما أستطاعوا فعل شيء ، ولهذا يتأسفون على طريقة موته وليس موته فعلاً ، رغم أن موته كان السبب في سقوطهم جميعاً فيما بعد ، ورغم أنها كانت خائفة إلا أنها قامرت كثيراً عليه ولو لم يكن رجلاً تستطيع المقامرة عليه ما كانت لتحشرَ نفسها في علاقة معه وربما كانت ستفوز بهذه المقامرة لو تنفست أكثر قليلاً ، وكان ينظر اليهم من بعيد ولكنه كان جزئاً منهم جميعاً ولهذا عندما سقطوا سقط معهم والحب الذي بينهما لم يدم كما لم تدم الحياة نفسها.
ويقفز الحافظ عائداً الى المسرح "ها أنا ذا" ويصرخ "وهكذا تفهمون يا أطفال أن القصص الأبدية التي أرويها ليست أبدية بسبب أصحابها ، أنها أبدية لأنني موجود" وينظر بعيون حمراء دامعة "الآن يا أطفال الآن" تتحرك الخيوط ويبكي الأطفال بينما يتفرقون ويختفون في ظلال المسرح بينما ينزل الستار ومحمد الحافظ واقف وكأنه ميت ، ميت فقط.

الفراغات(the blanks)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن