عادت ربى إلى البيت مساء ذلك اليوم، وجسدها مرهق من طول الدوام والعمل. لم تكن تحمل المال، إذ لم تُبع الكعكات كلها كما اعتادت.
نوال، التي كانت تنتظرها عند الباب، ما إن رأت يديها خاليتين حتى انقضّت عليها كوحش جائع. انهالت عليها بالضرب، بلا رحمة ولا إنذار، حتى تعبت ربى وسقطت أرضًا، مغشيًا عليها من الألم.
مرّت ساعات الليل ثقيلة، ونامت ربى وهي لا تعرف إن كان جسدها أم قلبها المنهك أكثر.
لكن مع نهاية العام الدراسي، تغيّر شيء في ربى. كانت قد جمعت مبلغًا من المال بعد أن بدأت بصنع الكيك وبيعه لصديقاتها، بنسبة 20٪ من الأرباح. شيئًا فشيئًا، تحوّلت موهبتها الصغيرة إلى مصدر بقاء.
وفي أحد الأيام، سقط والدها فجأة في البيت. سعل طويلًا، ووجهه شحب. نوال نظرت إليه ببرود، وقالت دون اكتراث: "لا شأن لي به. فليأخذه أحدٌ غيري!"
ثم جمعت أغراضها، وأخذت ابنها أركان، وغادرت البيت بلا وداع، وكأنها لم تكن يومًا تنتمي.
ربى، رغم صغرها، أمسكت بيد والدها المرتعشة، وجرّت جسده الثقيل بجهد عظيم، وأخذته إلى المستشفى القريب.
وهناك، عند قسم الطوارئ، وقفت أمام شباك المحاسبة، تمد يدها بالأموال التي جمعتها بصبر وألم.
كانت عيناها دامعتين، وملامحها تعبّر عن حزن لم تعد تستطيع إخفاءه.
في تلك اللحظة، كان صقر قد دخل المستشفى بالصدفة، في مهمة رسمية. لم يَرَ ربى منذ ستة أشهر، لكنها لم تغب عن باله يومًا. كان يراها في وجوه الناس، ويسمع صدى صوتها في صمته.
رآها من بعيد، واقفة وحدها، بثياب متواضعة، تحمل أوراقًا طبية بيد، وتدفع المال بالأخرى.
اقترب منها ببطء، وقبل أن يتكلم، رفعت رأسها، فتلاقت العيون... لحظة صمت، عميقة.
قال بصوت خافت: "ربى...؟"
نظرت إليه، وارتبكت، لكنها لم تنكر وجوده.
سألها بسرعة، مشيرًا إلى الرجل على السرير المتحرك: "هذا والدك؟"
أومأت.
وقف صقر مذهولًا وهو يقرأ الاسم الكامل من الملف الطبي:
"حسن بن عذاب"تجمّد مكانه، وعيناه لا تفارقان وجه ربى.
قال بصوت يكاد لا يُسمع: "عذاب؟ أنتِ حفيدة عذاب؟"
نظرت إليه ربى باستغراب، لم تفهم ما الذي يقصده.
أكمل وهو يخطو نحوها: "عذاب هو جدي... والد والدي عزيز."
سكت لحظة ثم قال، وعيناه تلمعان: "وهذا يعني... أنكِ ابنة عمي."
وقفت ربى مدهوشة، شعرت كأن الأرض تميد تحت قدميها.
أرادت أن تتكلم، لكن الكلمات لم تسعفها.
