الفصل الأول

44 2 0
                                    

༺الفصل الأول༻

اَلبُطء هُو الشَّيْء الذِي يَقتُل أيَّ شَيْء بِسُرْعة، يَأخُذ مِنَّا مَا نُحِب فِي رَمشَة عَيْن بالرَّغم مِن أَنَّه بطيء، لَكنَّه مَاكِرَّ كالثَّعْلب، لا بل فَاقَه مكْرًا وحيلة، يَأتِي على شَكْل طُفيْلِي ويُحْدث فِيك جُرْحًا صغيرًا جِدًّا تَكَاد تَشعُر بِه، وَمِن ثَمَّة يَكبُر وَيصبِح جُرْحًا غَائِرًا، يُؤْلِمك كثيرًا هذَا اَلجُرح، يَستهْلِك ويأْخذ مِنْك عَقلُك ونفْسك ويجْعل الموْتُ خِيارك الأفْضل لِلْحيَاة، هَكذَا هُو اَلبُطء يقتل كما قتل أبي . وهكذا أموت أنا كل يَوْم بِبطْء.
عِنْدمَا أنْجبَتني أُمِّي كان أَبِي ميتًا ، ولم أَحْظَ بِالاسْم الذِي اِخْتاره لِي قَبْل مَوتِه، كان يَرغَب بِأن يُسَمينِي "ذهب" لِأَنه يُجيد صُنعُه فَهُو صَائِغ بَارِع، بل الْأبْرع فِي البلَاد، يَشتَرِي مِنْه المسْلمون والْيهود، والمصْريِّين، وأيْضًا بَعْض الأجانب، وهناك من يَأتِي مِن الجنوب مِن أَجْل الذَّهب الذِي يصْنعه، لَقد كان رَجُلًا رَائِعًا مُحِبًّا لِعمله وأسْرَته الصَّغيرة المكوَّنة مِن زَوجَتِه وَأختِي اَلكُبرى "رِيم" وَأنَا نَعم كُنْت فِي بَطْن أُمِّي وَلكِن كُنْت أَشعُر بِه، وَهذَا مُؤكَّد يَا قِطَّتيَ الصَّغيرة:
_كان أَبِي رَجُلا صالحًا وتقيًّا؛ لِهَذا شَعرَت الموْتَ بِالْغيْرة مِن أُمِّي وسرقَته مِنهَا.
نَظرَت ألِيَّ اَلقِطة بِعيون وَاسِعة فَأَكملتُ لَهَا قَائِلة بِهَمس:
_نعم يَا صغيرَتي الموْتَ اِمرأَة غَيُور، تَخطف أَروَاح الرِّجَال الصَّالحين مِنَّا، وَتترَك لَنَا بَعْض اَلفُتات، وأكْبرُ مِثالٍ لِهَذا اَلفُتات: زَوْج أُمِّي وأيضًا هوعمِّي اَلعزِيز لقد تَزَوجهَا بَعْد وَفَاة أَبِي، وَهُو اَلذِي أسْماني "أَمارِيس" تيمُّنًا بِحبيبته اليهوديَّة "أماريسَا" التِي تركتْه لِأَنه مُجرَّد صَيَّاد بسيط وَمسلِم وليْس مِثْل أخيه تَاجِرَ الذَّهب وَصانِعه، ولكن السَّبب الحقيقيُّ هو لِأَنه وَغْد وَخائِن، لَقد خان الوعْد الذِي قَطعَه لَهَا بِأَنه سيواجه العالم كُلُّه مِن أَجلِها، وَلَكنَّه اِخْتَار أن يَكون تِلْك المرْأة التِي تَتَخلَّص مِن جَنينِها اَلذِي أنْجبَتْه مِن بِئْر الرَّذيلة الأسْود...
ـــــــــــــــــ༺١༻ـــــــــــــــــــ
كانت الأجواءُ مليئةً بالهرجِ والمرجِ، والجميع في حالةِ استعدادٍ تامٍ، إلا ذاكَ الذي يجلسُ بأريحيةِ علي إحدى الأرائكِ الكبيرةِ التي تتواجدُ بالمكتبِ، المَلكُ متجاهل نظراتِ الكرهِ من جالسٍ أمامهُ، يضعَ كفَّهُ تحتَ خدهِ ويُفكرُ في كعكاتِ أمهِ التي تنتظرهُ بعدَ غيابٍ دامَ لسنواتٍ، ولكنَّ الأحلامَ حبلها رقيقٌ كالكذبِ، وسرعانَ ما يتمُ قطعها بواسطةِ الأصواتِ حتى ولوْ كانت خافتةً، وهكذا قُطعتْ أحلامُ ذلكَ المغرور، عندما تحدَّثَ السفيرُ البريطانيُ "السيرُ مايلزْ لامبسونْ":
_بساطةٌ إما أنْ توقِّعَ هذهِ الوثيقةِ قبلَ الساعةِ السادسةِ مساءً وقدْ تمَ تكليفُ مصطفى النحاسْ بتشكيلِ حكومةٍ يا جلالةَ الملكِ فإنهُ يجبُ عليكَ تحملُ تبعاتِ ما سيحدثُ .
ضحك "جونْ لويدْ" بخفةٍ عندَ سماعهِ تهديدَ السيرِ للملكِ فاروقْ ثمَ نظرَ للجالسِ أمامهُ ذا العيونِ البنيةِ والبشرةِ السمراءِ وقالَ:
_لا تقلقوا؛ الغلبةُ لكمْ.
ثمَ هبَّ واقفًا مغادرًا المكتبَ متوجهًا للساحة وبتحديد لمقابلةِ قائدِ القواتِ البريطانيةِ المسؤولَ عنْ محاصرةِ القصرِ عابدين.

أماريسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن