الفصل الأول

92 4 15
                                    

الفصل الأول

قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي
يا ولدي قد مات شهيدا.
من مات فداء للمحبوب
من مات فداء للمحبوب... يا ولدي

كلمات الأغنية قد ملأت بهدوء حزين أرجاء الغرفة، ينبعث صداها من مذياع عتيق، وضع على منضدة صغيرة بجانب زهور التوليب الحمراء، هناك قرب النافدة الكبيرة التي تسلل منها نور الشمس يملأ الغرفة، دون أن يصل إلى قلوب غربت شمسها و انطفأ ضياؤها منذ سنين، فسكن الظلام عمرها يأبى الزوال و قد أوقف تعاقب الأيام لترسوا على جنبات الخذلان، تتلحف بالعتمة و كأنها ستارها من ضربات الزمان التي لا تتوقف!
الستائر البيضاء الشفافة التي أحاطت جنبات النافدة، كانت ترفرف كالفراشة و الهواء الصباحي الجميل الذي تسلل من الضفة المفتوحة، يداعبها كعاشق وفي، فتتمايل معه بحب تستمتع بلمساته الحانية التي تزرع بها الحياة. كان الجو صحوا رغم أنه يوم من أيام كانون الأول، و قد سمع صوت العصافير تشارك العندليب في تغريده و هي تقيم تراتيل الصباح برنة شجية ذات لغة مجهولة!
جلست أمام مرآتها، تتحسس بشرتها البيضاء الناعمة، ناعمة كبشرة رضيع صغير، ابتسامة حزينة قد رست على شفتيها و الجملة تجتاحها بلهيب من الشوق و الحنين و قد بعثت من أطلال الماضي، ماض سحيق جدا! بعيد جدا! استيقظت فجأة من قبور ذكرياتها تهاجم قلبها دون رحمة، و ما كانت تلك المرة الوحيدة، فأشباح ماضيها لا تنفك أبدا تبحث عن الفرصة التي تزورها بها، تختبئ دوما في عمق ذاكرتها تتربص بها بين حين و أخر. هي لم تكن تختبئ في الواقع، بل إنها من خبأتها فقط عن أعين الأخرين، بينما الذكرى حية ترزق في أعماقها، تعشش في روحها و تقتات منها دون رحمة، وضعت قرطيها الفضيين في أذنها، بينما تزيح شعرها الأشقر إلى الخلف، شعرها الأشقر الذي لم تعد شقرته طبيعية كما الماضي، فبعد أن غزاها بعض الشيب يتغذى على لونه المميز أصبحت تضطر لصبغه كي تخفي أثر السنين عليه، لم تكن كبيرة حقا، كانت بالكاد في أواسط الأربعينات، لكن سنين الألم التي عاشتها، جعلتها تشيخ قبل الوقت، تلك السنين التي تأبى إلا أن تترك بصمتها في كل مكان، تأبى إلا أن تمضي و قد حفرت ذكرياتها، و وضعت لمستها على كل شيء، رفعت أصابعها الرقيقة لتلمس جانبي عينها، السنوات لم تكتفي بسلب اللون من شعرها و حياتها، بل إنها قررت رسم خطوط دقيقة على وجهها الطفولي،خطوط لا ترى بوضوح إلا لعينيها الحزينتين، عينيها التي رأت من مرار الدنيا الكثير،رغم كل هذا كانت تبدوا صغيرة جدا للناظر إليها، و كأن الزمن معها توقف منذ سنوات، فبدت مماثلة لطفلتيها اللتان أتمتا سنهما الرابعة و العشرين، و كأنها توأمتهما الثالثة! لم يكن الاختلاف إلا في مسحة الحزن و الألم التي كست ملامحها الطفولية، تفضي بسنين العذاب التي عاشتهم صاحبتها، لكنها تعترف بعد هذه السنوات أنها كانت قوية، بل قوية جدا! قوية لتعتني بأختها الصغيرة بعد وفاة والديها، و قد كانت حينها مجرد طفلة في سن الخامسة عشرة، أجبرت على توديع طفولتها هذه للأبد، فبعد وفاة والديها في حادثة سير، وجدت نفسها المسؤولة على أختها الصغيرة و التي تصغرها بخمس سنوات فقط، لم تتذمر بل دفنت حزنها بسرعة، و هبت لتنقد ما تبقى و قد ألقيت مسؤوليات عظام على كاهلها، المصائب تجعلنا نكبر قبل الأوان!و تمنحنا وعيا بما يجري حولنا،و قد منحتها محنها سنينا طويلة فوق عمرها، زادت من حكمتها و تعاستها معا!
كان يلزمها مجهود جبار، لتعتني بأختها و لا تتخلى عن دراستها،ثم تعمل في دوام جزئي مع خياطة كانت جارة لهما و قد أشفقت عليها لتمنحها يد العون و تعلمها حرفة تقتات منها ما يسد جوعهما و قد كان معاش والدهما يكفي بالكاد للإيجار و دفع فواتير الماء و الضوء! و هناك في ذلك المحل الصغير قد عشقت الثوب و التصميم، لكنها نسيت هذه الهواية في السنين القادمة بعد أن انغمست في دراستها لإدارة الأعمال، و عملت في ذلك الميدان لمدة بعد تخرجها، غير أن تلك الهواية ستعود للاستيقاظ من جديد، بعد صدمتها الكبرى، حين أصبحت مجرد حطام للمرة الثانية، لتهب في بناء نفسها من الصفر، عانت بكت تعبت! لكنها لم تتوقف، و قد اتخذت حزنها و ألمها وقودا لتمضي! تحقق نجاحا بعد الأخر، حتى توالت النجاحات فما عادت تعد! بدأت بحجرة خياطة صغيرة فقط، و طورت نفسها حتى أصبحت مصممة الأزياء العالمية التي هي عليها الآن، و بأي ثمن حصلت على كل هذا؟!
فروحها لم تجد سلاما في شيء، فلم تدق حلاوة انتصاراتها بعد أن فقدت من كان لها حياة!
كانت تظن أن جميع أحزانها ستختفي عندما تعرفت على حبيب عمرها محمود، غامت عينها العسليتين بحزن دفين، و قلبها يرتعش ألما لمجرد ذكراه! حبيبها الذي أذاقها من جميع فنون الحب و السعادة و غمر روحها بأعذب الأحاسيس في الكون! حبيبها الذي فتح لها أبواب النعيم على وسعها، و أغرقها في بحور من الحنان و الأمان، أحاطها بحب لم تعرف بوجوده قبله! و أراها جانبا مشرقا من الحياة ما أبصرته إلا بعينيه، كانت تظن أن الحزن لن يقربها يوما ما دامت معه، تتظلل بحبه و تنعم بأمانه، ذلك الشخص الأسطوري الذي ما ظنت أن له وجود في هذا العالم الأسود أبدا! رغم إدمانها لقراءة قصص الحب و أشعار الهوى! و للعجب أنها صادفته، و قد كانت محظوظة جدا، أن ربحته و ربحت حبه! حتى اختفى فجأة من حياتها، لتسقط من سماء السعادة منكسرة دليلة، و كأن كل ذلك الوقت لم يكن إلا حلما جميلا جدا، انتهى بسرعة و صار مجرد سراب، و كأنه كان وهما غزله خيالها المحتاج للحب و الأمان، فذلك الحب الذي عاشته معه يصعب تخيله حقيقيا من كثرة ما به من إعجاز يفوق حدود المنطق!
كانت لتتوقف قطعا لتموت قهرا،لولا الأمانة الجديدة التي أضيفت إلى كاهلها من جديد، تلك الأمانة التي أكدت لها أن ما مرت به لم يكن وهما!و كأنها هدية من السماء لتخفف عنها مأساتها،فهي ذكرى حية ظلت بين يديها، تلك المسؤولية الثقيلة لم تكن عذابا لها بل كانت سلوى وسط كل هذا البؤس الشديد، كانت البلسم الذي عقم جروحها، كانت الدافع لها لنجاح أكبر،للكثير من النجاحات التي ما كانت تهمها واقعا في شيء،فقط روحها اختارت أن تهرب للكد و العمل المتواصل علها تتشاغل عن ألامها و تمنح طفلتيها حياة رغيدة، امتلأت عينيها مرة أخرى بعاطفة جياشة،عاطفة من حب و حنان لو فرش بحورا لأغرق الكون بأسره،و قد أخذها تفكيرها هذه المرة إلى توأمتيها، توأمتيها الغاليتين، ثمرة حبها العظيم مع حبيب قلبها،أماني ممتدة على طول حياتها معه،و أمنية حبيبة أثيرة على قلبها.
كل أمانيها هي و أمانيه هو! بنتيها الحبيبتين،سر كل نجاحاتها،و سر صمودها، لقد كبرتا الآن، كبرتا و أصبحتا شابتين فاتنتين، ليكملا معها مسيرتها العملية، ما كانت أبداً لتضغط عليهما لممارسة نفس ميولها، كانت تترك لهما دوما القرار الكامل في بناء مستقبلهما، لكن أميرتيها الحبيبتين أبتا إلا أن تحدوان حدوها في كل شيء، و خصوصا أمانيها الغالية، أماني تشبهها في كل شيء، أماني الناضجة أكثر بكثير من عمرها، أماني من تدرك وحدها الهوة التي في قلب أمها، من تحس بحزنها دون أن تتكلم حتى!أماني العاطفية و القوية مثلها تماما، أماني التي تضع نفسها مسؤولة عن كل شيء، و التي لم تتونى عن حمل مسؤولية عائلتها فوق عاتقها و لم تتراجع عن مساندة أمها في كل شيء، أما أمنيتها الصغيرة الحبيبة، فإنها لا تكبر أبداً تظل طفلة صغيرة مشاكسة تحب الدلال، صغيرتها الجميلة، التي أخدت طباع تسرعها و حماسها من نفسها الماضية، في حين أخذت بصيرتها العميقة و حسن تقديرها للأمور دوماو قلبها المحب الصادق دوما بأحاسيسه من والدها!رغم أنها لم تراه يوما! محمود رحل قبل أن يعرف بوجودهما، لكن أمنية كانت نسخة مصغرة عنه. تشبهه بطريقة لا تصدق في نظراته و تصرفاته العفوية، فكيف تحمل الجينات كل هذا التشابه عند الشخص؟ أمنية لا تشبه أباها في الشكل، بل إن ابنتيها الاثنتين اخدتا ملامحها الأروبية،لكن طبعهما قد تفرق ليحمل منهما معا.
تنهدت و هي تنظر إلى الساعة الموضوعة على طاولة زينتها،لتقف كعادتها دوما للنزول لمائدة الفطور،لكنها اليوم لن تشاركهما فطورهما لأول مرة فعليها إتمام تلك الأوراق المهمة لإنجادهما.فبالها لم يرتح منذ أيام بسبب تهور تصرفها ذلك.حتى صارت نفسيتها تغرق بين أمواج الماضي أكثر و أكثر..تلك الوحوش الراقدة في ذاكرتها قد أقامت عليها حروبا و لا تعرف لما تحس أنها أوشكت أن تلتهمها للأبد!
كل يوم منذ زمن الفراق قد أصبحت عادة لها أن تختلي مع نفسها لتسبح في دوامات ماضيها، ماض كان يوما جميلا و حبيبا عليها، ليصبح بالبعد قاتلا و مؤلما ينحر قلبها دون شفقة!تنهدت بتعب و هي تبعد تلك الأفكار عن رأسها، تنظر للمرة الأخيرة لانعكاس صورتها في المرآة، ثم تستقيم من جلستها، لتتجه إلى المذياع توقف الأغنية بأعين شاردة، رفعت رأسها لتنظر إلى السماء فشاهدت تسلل السحب تغطي أشعة الشمس، ديسمبر، سيظل شهر الدموع و النهايات، لا بد أنها ستمطر قريبا، لن يظل الجو صافيا لمدة طويلة، ما أتى في وقته لا يلام!و هي أحبت دوما دموع السماء تحس أنها تشاركها رثاءها و تواسيها في ألامها دوما، أغلقت النافدة، و أسدلت فوقها الستائر، قبل أن تبتعد عن كل هذا المكان الذي أصبح محرابا للعيش في حبه خارجة من الغرفة بأكملها دون أن تخرج منه هو!
نزلت درجات السلالم بمهل لم يكن عادتها في الماضي أبدا، فقد كانت تنزل منهم جريا بحماس لا ينضب. و كم كان يحذرها هو من ذلك! فتعاند كطفلة الصغيرة. و هي تقترب إلى الطابق السفلي وصل إليها حديث ابنتيها و أختها اللواتي كن جالسات على طاولة الفطور.
_أين أمي ألم تنزل بعد؟ ليس من عادتها ان تتأخر.
_لا تستعجلي يا أمنية ربما هي مشغولة قليلا.
ليأتيها صوت أختها الحانق، أختها التي لم تستطع أبدا قتل ذلك الشر الذي نمى في دواخلها دون أن تدري من أي بذرة سوء أتى!كم تتألم وهي تحس بأنها خانت ثقة والديها و لم تستطع تربية أختها كما يجب، فقد أثمر الحقد في دواخلها، تغذيه كل يوم أكثر و أكثر، هي تعلم عن كل الاختلاسات التي تقوم بها في الشركة، لكنها تحاول أن تغض البصر عنها، علها تستيقظ يوما من ظلالها، تشعر بالتقصير دون أن تدري أين أخطأت بالضبط، كيف لم تستطع أن تلاحظ الشر المستوطن في دواخلها، لقد فعلت أكثر مما كان بوسعها، و مارست دور الأم و الأب و هي في سن الخامسة عشرة، من يلوم طفلة على تقصيرها في أمر لا يقدر عليه أعتى الرجال؟ لكن هذا لا يبدل حقيقة أن تربيتها ذهبت سدا، أم أن هذه هي طباع البشر، فما كان ممكنا أن يسكن الخير قلوب الجميع.
_تتحدثان كطفلتين صغيرتين لا أفهم تعلقكما المرضي بتلك المرأة!
_صباح النور
قالتها توليب بابتسامة حانية، لتمنع أختها من الاسترسال في حديثها المسموم.إلتفتت إليها الفتاتين يبادلان ابتسامتها بأخرى لا تقل حبا، اقتربت منها أمنية تسبق أماني لتطبع قبلة على وجنتيها و هي تقول برقة
_أهلا غاليتي كنا في انتظارك.
قبلتها أمها هي الأخرى قائلة بحب و هي تلعب في خصلات شعرها الشقراء الملتوية.
_صباح النور حلوتي.
اقتربت منها أماني لتقبلها على وجنتيها قائلة
_أهلا أمي، أتعلمين أن شمس الصباح لا تطل إلا بإطلالة وجهك، فبدونه ليس هنالك صباح. تعالي لتشاركينا الإفطار.
كانت بيداء تنظر لشقيقتيها و ابنتيها بحقد كبير،و نفس الأسئلة الخانقة تشتعل في دواخلها التي أصبحت كجهنم من الحقد! لما حصلت توليب على كل شيء، أولا حب والديها الكبير لها و تفضيلها دوما، كما أنها قد عاشت معهما سنينا أكثر مما قضتهم هي معهما، و قد حصلت على نسبة أوفر بكثير من الجمال،و استطاعت أن تملك ثروة هائلة من لا شيء، ثم حظيت بزوج و حبيب رائع!عند هذه النقطة ابتسمت بيداء برضى، و قد طفى الشر على عينيها، و هي تنظر لأختها و ابنتيها، حسنا ها هما الصغيرتين المدللتين دون أب الآن و توليب الجميلة لا تملك زوجا بجانبها ، على الأقل هذه النقطة تهون عليها القليل من حسرتها، فلما استحقت توليب كل شيء؟ لما؟ كان يفترض أن يكون كل هذا لها وحدها، الجمال القصر، الشركة، حب الناس لها. و كل شيء تملكه!
_آسفة صغيرتي لن أستطيع تناول الإفطار معكما اليوم علي أن أذهب بسرعة للورشة،سأكمل شيئا مهما فيها، لي مشاور كثيرة اليوم.أراكما مساءً عندما تعودان من الشركة، اهتما بنفسيكما.
سألتها أمنية باستفسار
_ألن تمري للشركة اليوم أبداً؟
حركت رأسها بنفي و هي تقول
_لن أستطيع مضت مدة لم أزر فيها الورشة، العاملات يتعبن جدا، و يجب مواكبة عملهن و احتياجاتهن
تحدث أماني معها بحنانها المعتاد و قلقها الذي لا يهدأ على غاليتها.
_تناولي فطورك أولا حبيبتي بعدها إذهبي حيث شئت.
حركت توليب رأسها بنفي و هي تقول برقة
_بل يجب أن تفطرا أنتما جيدا، و اعتنيا بالشركة في غيابي.و خذا بالكما من بعضكما، أحبكما كثيرا.
ابتسمت لها أمنية و هي تجيب عنها و عن أختها.
_لا تقلقي حبيبتي سيكون كل شيء بخير.
لكن أماني سألتها بقلق و عينيها الجميلتين يتفحصانها
_هل أنت بخير يا أمي؟!
جاهدت توليب كي لا تظهر ارتعاشاتها بعد سؤال أماني التي تنفد دوما لأعماقها، لم تكن بخير حقا، غصة مؤلمة كانت تعتصر قلبها، في بعض الأحيان يكون وقع الذكريات عليها مؤلما جدا، خصوصا في هذا الوقت و هو الذي يصادف ذكرى فراقها مع حبيب القلب، لا تستطيع أن تنظر إلى ابنتيها دون أن تتذكره، و تتسأل ماذا كان سيحدث لو كانوا الآن أسرة واحدة؟!
رسمت ابتسامة واسعة على شفتيها و هي تجيب ابنتها.
_أنا بخير حبيبتي. بخير تماما. أترككما الآن كي لا أتأخر اعتنيا بنفسيكما.و كنا بخير لأكون.
قالتها و هي تطبع قبلتين على وجنة كل واحدة منهما، ثم لوحت لأختها بيدها، و التي اكتفت برفع يديها في شبه تحية، و ابتسامة مستهترة رسمت على شفتيها الملونتان بأحمر فاقع. لكنها استشعرت منها نظرة غريبة جدا جعلت قلبها يرتجف، لم تلقي للأمر بالا فقد اعتادت ذلك من شقيقتها، أكملت طريقها إلى الخارج و ألاف الأفكار تعصف في عقلها.
نظرت أماني إلى خيال أمها المبتعد ببعض من الوجل، لم يسبق لأمهما أبداً ان فوتت أي وجبة إفطار جماعية معهم، بل هي من كانت تحث عليها حثا، حتى أصبحت بالنسبة لهما فريضة لا ترك لها، أمها الحبيبة تلك الإنسانة العظيمة التي كانت لهما أما و أبا طوال حياتهما، بل أما و ابا و اختا و صديقة، كيف لشخص واحد أن يتقن جميع هذه الادوار؟ و يمثلهما بهذه الاحترافية؟ أماني لم ترى والدها يوما، لكن لم تشعر للحظة باليتم! فهي تملك أما رائعة جدا، إنها كل حياتها هي و أمنية، لقد كانت محظوظة جدا لتحصل على هذه الأسرة المحبة. نهضت من طاولة الطعام بعد أن أتمت فطورها دون جوع حقيقي، عجبا حتى الطعام يفقد نكهته في غياب قلب البيت، فكيف يعقل أن يصل تعلق إنسان بإنسان أخر لهذه الدرجة؟
نهضت من مكانها و هي تقول
_حسنا إلى اللقاء سأذهب للشركة.
مسحت أمنية فمها بسرعة و هي تقول.
_انتظري سأذهب معك، تعلمين أنني لا أحب القيادة.
حركت أماني رأسها و هي تقول
_حسنا حبيبتي .سأسبقك للسيارة. و اتبعني أنت.
نهضت من على الطاولة دون أن تحيي خالتها التي و للعجب، لم تسمم فطورهما اليوم بكلامها، تتجه خارج القصر، حين صعدت أمنية الدرج جارية إلى غرفتها لتستعد للخروج.
جلست في مقعد القيادة. لتنزل المرآة التي أمامها تضبط من مظهرها، فوقعت عينها على الصورة التي تجمعها مع أمها و أختها. اه كم تحبهما فهما محور حياتها الجميلة، ابتسمت للصورة بحب كعادتها و هي تمرر يديها عليها. والدتها الشقراء الفاتنة، السيدة القوية و الحنونة، الطيبة و المناضلة و المحاربة من أجل فتاتيها الصغيرتين. أمها و أبوها غريب أن لا تشعر أبدا باليتم. و هي لم ترى أباها يوما. الأمر لم يشعرها بالنقص أبداً. حتى و صديقاتها لا يكفون عن لفظ كلمة "بابا" منذ كانت صغيرة. لكنها ترى أنها المحظوظة بينهم جميعا فلا أحد يملك أما مثل والدتها الحبيبة.
حلمها في الدنيا أن تسعدها كما تسعدهم هي دوما، تتمنى أن تصل إلى موطن ألمها فتجزه من الأعماق. أخرجت هاتفها من الحقيبة لتضغط على مجموعة من الأرقام. ثوان قليلة ارتفع فيها رنين الهاتف، قبل أن يفتح الخط و يصلها صوت أنثوي ناعس.
_نعم
ضحكت أماني قائلة
_اووه. لا تزالين نائمة أيتها الكسولة ألا يكفيني المرور عليك كل يوم لأصحبك معي للعمل. يجب ان أقوم بإيقاظك دوما من الفراش؟
فركت بيلسان عينيها و هي تقوم باتخاذ أصعب خطوة في يومها بل في كل أيام عمرها، ترك الفراش الدافئ صباحا. و إبعاد الغطاء عن جسدها. أيوجد في الدنيا أصعب من ذلك؟!
سألتها و هي تتثاءب
_هل وصلتي؟!
أجابتها و هي تشغل محرك السيارة
_ليس بعد لكنني سأتحرك الآن برفقة أمنية.
ابتسمت لأمنية التي دخلت السيارة للتو، تسألها بخفوت
_بيلسان؟!
حركت أماني رأسها بتأكيد و هي تهم بتحريك السيارة.
_هيا يا بيلسان أنا في الطريق أسرعي.
بعد بضع دقائق كانت سيارة أماني تقف أمام مجمع سكني بسيط. لتخرج هاتفها تعيد الاتصال ببيلسان. فأجابتها دون تأخر هذه المرة.
_أنا جاهزة أين انت؟
قالتها بيلسان بعجلة. و هي تقضم شيئا في فمها. ابتسمت أماني و هي تتكئ على مقعدها براحة قائلة
_أريد نصيبي
_ماذا؟
سألتها بيلسان بعدم فهم و هي تعقد حاجبيها البندقيتين المرسومتين بدقة. كررت أماني باسترخاء
_أريد نصيبي مما تأكلين. طعام خالتي نارين لا أحب لي منه.
_لقد حضرت لك وجبتك يا ابنتي أنت و أختك.
و صلها صوت السيدة نارين الحنون التي كانت تتحدث بصوت عال حتى يصلها صوتها.لترد عليها هي الأخرى بصوت مرتفع
_شكرا لك خالتي الغالية.و أطلبي من ابنتك الإسراع نحن دائما متأخرات بسببها.
انفجرت بالضحك حين قطعت بيلسان الخط عليها بغضب دون ان تصلها كلمات نارين الضاحكة.
بعد مدة كانت كل واحدة منهن جالسة في مكتبها منكبة على عملها كما جرت العادة.
تذكرت أماني شيئا يجب أن تسأل عليه أمنية، فحملت الملف خارجة من مكاتبها متجهة إلى أختها. فتحت عليها الباب لتجد ذلك المزعج جالسا أمام مكتبها. يا إلهي كم تكره هذا المغرور و تشعر بالإنزعاج لمجرد رؤيته! لكن أمنية الطيبة منبهرة به، أمنية التي لم تحظى بحنان الأب يوما، قد وجدت في اهتمامه الذكوري شيئا كان ينقصها، في رأييها أن أختها لا تحبه كما تظن، لكنها خائفة عليها كثيرا، فهذا الوغد يبدو كقناص للفتيات، يتلاعب بأحاسيسهن البريئة، و يرضي جانبهن الرومانسي. من الممكن أن تكون تهول الأمر قليلا فقط لدفاعها عن أختها، لكن هذا لن يمنع أن تظل تخاف على صغيرتها دوما.
_سيد رائد هل من مشكلة؟
رفع رائد عينيه الملونتين التي لطالما وقعت الفتيات في أسرها، فهو وسيم جدا لا تنكر ذلك. لكنها ما رأت في عينيه سحرا، بل مجرد عينين ساخرتين بهما شيء غامض لا تستطيع تفسيره! نظر لها باستهزاء قائلا.
_اوه آنسة أماني كيف حالك؟
لم تجبه و هي توجه حديثها لأختها قائلة
_أمنية أريدك في موضوع.
ابتسم بسخرية و هو يرى تجاهلها الواضح له. ليقف من على الكرسي و هو يقول متعمدا تجاهلها كما فعلت معه.
_ودعا أمنية أراك لاحقا.
خرج مغلقا وراءه الباب بينما أماني تتبعه بعينيها بغير راحة. بل إن نظراتها الحانقة كانت كافية لقتله.
_أماني لما عملتيه بهذه الطريقة. لا أفهم سبب تصرفاتك هذه معه؟.ما سبب كرهك له لهذ الدرجة؟ و هو لم يفعل شيئا سيئا!
أجابتها أماني بحنق موبخه إياها
_بل أنا التي لا أفهم أحاسيسك الطفولية هذه نحوه. سمعة الرجل السيئة معروفة في كل مكان.
زمت أمنية شفتيها بعدم رضى و هي تقول
_الناس يتكلمون فقط يا أماني هم يحبون نسج قصص لا أساس لها من الصحة.ليس كل ما يقال حقيقة يا أختي! أنت لا تعرفينه حتى تظلمينه بهذه الطريقة!
وضعت أماني يدها على المكتب تقترب بوجهها من أختيها و هي تقول
_الناس يتكلمون صحيح. لكن الرجل لا يخجل من علاقاته النسائية التي تفوق شعر رأسه المصفف بعناية يعرضها على العلن. دون أن يفكر حتى في ممارستها سرا!
بدت أمنية واثقة و هي تجيبها بتأكيد، و بعض التوسل في عينيها أن تصدقها
_صدقيني يا أماني. رائد فتى طيب جدا هو فقط وحيد. و يحاول إبراز نفسه بتلك الطريقة!
سألتها أماني بصبر
_و في رأيك هذه هي الطريقة الصحيحة؟
حركت رأسها نفيا و هي تجيبها
_كلا، لكن ربما يتغير لو وجد حبه الحقيقي! هو محتاج حقا لشخص يحبه و يتفهمه.
سألتها أماني ببعض السخرية
_ و أنت ذلك الشخص يا أمنية صحيح؟
لم تنكر و هي تجيبها بصراحة
_ و لما لا؟ كل شخص يستحق فرصة في هذه الحياة.
تنهدت أماني بتعب قبل أن تقول لأختها و هي تحاول أن تكتم غضبها.
_هو لا يستحقك أرجوك اسمعني.
ظهر الغضب على ملامح أمنية الجميلة و هي تقول.
_أنت لا تفهمين يا أماني! تتفهمين الجميع إلا هو! لماذا تعتبرانني دوما أنت و أمي طفلة صغيرة؟! قد يكون طبعي مختلفا عنكما، لكني حقا أملك إحساسا بنوايا البشر! بدل أن تظلي تتبعين رائد. إذهبي و أحرسي موطن الشر الحقيقي خالتك! رائد شخص رائع جدا في حقيقته و سيأتي اليوم الذي تفهمين فيه ذلك. تذكري كلامي هذا!
زمت أماني شفتيها قائلة
_يا خوفي يا أختي من أن تعلمي أنت صدق كلامي و قد فات الأوان. الناس ليسوا ملائكة يا أمنية افهمي ذلك!
قالتها لتخرج من المكتب بغضب مغلقة الباب وراءها بعنف ارتج له أرجاء الغرفة. فليس لها مزاج لتتشاجر مع اختها الآن.و موضوع ذلك الرائد يغلي دمها فلا تستطيع حتى التفكير فيه بمنطقية!
وضعت أمنية رأسها على طاولة المكتب، تهيم في شرود. لا تعلم كيف تقنع أختها بما تحسه. صحيح أنها طفولية في تصرفاتها و تبدو غير متزنة. لكنها تستطيع تمييز كل شيء،حدسها لا يخيبها أبدا، تعلم جيدا أن رائد لا يراها إلا إحدى ضحاياه الجدد لكنها تحبه، و تعلم أيضا أن خلف هذا الشاب الطائش. طفل مجروح جدا. رائد الذي تربى منذ صغره مع زوجة أب بلا رحمة جعلته يكره جنس النساء، و يحاول الانتقام منهن جميعا. و رغم ذلك و رغم كل ما يدعي إلا أنه في حاجة إلى صدر أم يحتويه، هو مجرد طفل صغير. عنى من جبروت الحياة وقسوتها. مما جعله قاسي القلب متمردا على حاله. ليس سيئا أبدا. هو تائه و مجروح، يحتاج فقط إلى يد تقوده حتى يعرف الطريق الصحيح، لم يملك أما كي تعلمه ما يجب و ما لا يجب، لكن فطرته طيبة و داخله معدن أصيل، له منصب حساس في الشركة لكنه لم يقم بالتقصير فيه أبدا، و منذ استلمه بعد أن كان حكرا على خالتها لم تحدث أي إختلاسات.كل الحسابات كانت مضبوطة تماما،هو إنسان صادق و رجل يعتمد عليه حقا!
حتى أمها لاحظت ذلك و إلا ما كانت لتمنحه هذا المنصب المهم و الذي كان يفترض أن يبقى داخل إطار الأسرة، هي دائما ما تكون انتقائية جدا في اختيار الموظفين و غالبا لا تعتمد في ذلك على الشواهد العليا، بقدر اهتمامها بشخصية الموظف و نزاهته، فتلك لا يدرسها الإنسان أو يأخذ فيها شهادة ورقية، و رائد شاب طموح مجد في عمله. لكنها تعلم أن أمها على الرغم من حبها له، تظل متوجسة من قربه إليها دائما. خائفة جدا عليها. فهل ستقدر يوما على إقناعهم جميعا؟! ما تعلم هو أنها لن تستسلم أبدا مهما حدث. فهي تحبه، أجل تحبه حقا و ليس مجرد وهم كما تقول أماني، حتى أمها تعلم أن حبها له حقيقي.
تنهدت تبعد كل تلك الأفكار عن رأسها، لتحمل الملف الذي تركته أماني على الطاولة تكمل الاشتغال عليه بذهن شارد و قلب مشغول، هو لن يخيبها هي متأكدة من ذلك.
_______
كانت تقف أمام النافدة، تستند عليها و هي تضم يدها لصدرها، تتأمل بشرود المدينة من علو، ترى السيارات و هي تذهب و تجيئ و المارة يمشون على الرصيف. كل و ظروفه كل و شكله. كل و من يصاحب كل و ما يحمل، لكنها كانت بعيدة جدا. عنهم جميعا. هائمة في أفكارها المتعبة. تطل على العالم البعيد دون أن تراه، دوما كانت متعلقة بالنوافذ تحب القرب البعيد الذي تمنحه، فيكون الفراق منها أسهل!
_أماني كنت أريد أن أسألك...
قطعت بيلسان كلامها حينما رأت أماني الشاردة لتقترب منها و هي تضع يديها على كتفها. قائلة ببعض العتاب.
_في من تفكرين الآن أمك أو امنية. هل أنت مصرة دائما على تحمل المسؤولية في أمور لا تحتاج لذلك؟
تنهدت أماني و هي تتكئ بظهرها على زجاج النافدة لتقول بتعب
_أمنية يا بيلسان مصرة على التعلق برائد!
ضمت بيلسان يديها تتحدث مع أماني بتعقل
_أمنية يا أماني فتاة عاقلة. فتاة راشدة تتحمل مسؤوليتها بنفسها.هي ليست غبية أو ناقصة الأهلية، فتوقفي عن معاملتها بهذه الطريقة، أنت توءمتها بحق الله لست أمها!
رفعت أماني يديها تعيد خصلاتها للوراء و هي تتجول في غرفة المكتب قائلة بانفعال
_أعلم! أعلم ذلك جيدا! لكنها بريئة جدا يا بيلسان أو حالمة. حالمة كثيرا. نحن لم نمتلك رجلا في حياتنا يوما ربما هي ترى في رائد أول كيان ذكوري في حياتها هي متحمسة جدا للتعرف على الطرف الأخر أ تفهمينني؟! هي فتاة حالمة فتاة محبة. تفهمينني؟!
قالت كلماتها الأخيرة و هي تنظر إلى بيلسان و هي تحدق بها بتوسل أن تفهمها.تنهدت بيلسان و هي تجيبها بجدية.
_أماني صدقني أنت تظلمين أمنية كثيرا، هي أكثر نضوجا مما تظنين. ليس فقط لأنها تعاني مرضا مزمنا في القلب ستعاملونها بهذا الشكل! ذلك سيشعرها بالنقص و يدفعها للتمرد، هي الحمد لله حالتها مستقرة. و تستطيع أن تعيش حياة عادية رغم قلبها العليل!
امتلأت عينا أماني بطبقة شفافة من الدموع و قد انحصر غضبها ليشتد حزنها، و هي تقول بشرود.
_لا أستطيع التوقف عن الخوف عليها يا بيلسان، لا أستطيع أن أنسى أن حياتها مهددة بالخطر في كل لحظة،! رغما عنا سنظل نخاف عليها، و نحرص على أمانها ما دمنا لحد الآن لم نلقى لها قلبا مناسبا!
لعقت بيلسان شفتيها بلسانها قبل أن تقول بجدية و هي تنظر إلى عمق عيني أماني التائهتين.
_الخوف لا يلغي المحتوم حبيبتي لهذا توقفي عن هذا ودعيها تعيش حياتها كما شاءت
حركت أماني رأسها بعدم اقتناع و هي تقول
_حسنا أظن أن هذا الحوار لن يفيدنا بشيء. ماذا كنت تريدين؟
تنهدت بيلسان و هي تقفل الموضوع كما شأت أماني. قائلة
_حسنا جئت لأناقشك بخصوص هذه الملفات.
حركت أماني رأسها بموافقة و هي تقول
_إذن دعينا نجلس في المكتب أولا.
______
كانت أمنية شاردة تماما في طريق العودة، لم تبادل أماني أي حديث، و هي التي كانت دوما تدخل الروح و الحياة على كل ما يحيط بها، حينما نزلت بيلسان من السيارة بعد وصولها أطبق صمت مهول على المكان، فطوال الطريق لم تشاركهم امنية و لو بكلمة، تنظر من زجاج النافدة إلى الخارج، و كأنها تريد الانقطاع عنها و الابتعاد، النوافذ دوما تساعدنا على الهروب حين نكون محتاجين له و لا نقدر عليه، لم تستطع إخراجها من عزلتها مما جعلها تتوقف على جانب الطريق. فجأة قائلة
_أنا آسفة.
استدارت أمنية لأماني. و قد لاحظت للتو توقف السيارة. سألتها باستفهام و هي تتأكد أنهما لم يصلا للقصر بعد، و ليسوا حتى أمام محل معين.
_ ماذا هناك لما توقفتِ؟
رفعت أماني يدها ترجع خصلة من شعرها وراء أذنها في حركة تلازمها كلما تتوتر.ثم لعقت شفتيها قائلة
_آسفة يا أمنية. لم أقصد شيئا أنا فقط خائفة عليك حبيبتي، تعلمين أن لك مكانة غالية بقلبي.
عضت أمنية على شفتيها لتتنهد قبل أن ترد عليها.
_أماني أنت تظلمينني يا أختي قبل أن تظلمي رائد كنت دوما إنسانة متفهمة محبة عادلة مع الجميع لماذا حين يصل الامر لرائد تنقلب الآية عندك؟
أجابتها أماني بصدق
_لأنني أخاف عليك.
حركت أمنية رأسها بيأس مجيبة على أختها
_كفى عن تأدية دور الأخت الكبيرة نحن توأمتين! يا أماني توأمتين!
أجابتها أماني بحنان.
_أعلم حبيبتي أنت توأمتي و روحي تعالي يا مدللة.
قالتها أماني بابتسامة حنونة بينما تفتح ذراعيها. لتبتسم أمنية رامية نفسها بين ذراعي أختها.فهي لن تقدر على خصامها للحظات!
_______
مقدورك أن تمضي أبداً
في بحر الحب بغير قلوع
و تكون حياتك طول العمر
طول العمر كتاب دموع
شدو كلمات الأغنية التي لا يمل من سماعها أبدا، قد ملأ الأرجاء من حوله منبعثا صداه من أثير المذياع العتيق، يترنم بالقصيدة التي تحاكي بطريقة غريبة قصة حبه الحزينة،بينما يسقي قصاصات أزهار التوليب المغروسة في حديقته، توليب أحمر، كزهرة قلبه و حبيبة عمره، اه كم يشتاقها بطريقة لا يستطيع وصفها أبداً، كم مضت من السنوات منذ أخر يوم رآها فيه؟! خمسة و عشرون سنة إلا يوم، ابتسم بحنين و هو يفكر أنه لم يتوقف عن العد منذ ذلك اليوم، لقد كان مجبرا لفعل ذلك، مجبرا لطعنها بذلك الشكل قبل مغادرته، و حين عاد للبحث عنها وجد أن الوقت قد فات، فلم يجد هناك غير السراب، اختفت و لم تترك ورآها أي أثر، حتى أدم و نارين لم يجد لهما أثرا.و قد قاموا ببيع منزلهما و المغادرة معها، سنين طويلة و هو يحاول الوصول إليها، ليفضي لها بعذابه،ليصارحها بكل الحقائق و يشرح لها كيف كان مضطرا، و كيف تم التلاعب به و بها، و هي بالتأكيد ستتفهمه! فقد كانت قضية حياة أو موت، ليس شيئا يمكن تجاوزه،و هو كان مسلوب الحيلة حينها، لم يكن ذنبه،كان مغلوبا تماما عن أمره، لقد قتل نفسه و حبيبته يومها، و ها هو لا يزال لحد الآن يتجرع أهوال ذنب لم يرتكبه، كل ذنبهما معا كان أنهما أحبا بعضهما بصدق، بينما لم يكن كل من يحيط بهما صادقا، غير أن هذا لا يجعله بريئا تماما من الذنب مثلها! فلو كان سمعها من الأول و تخلص من تردده الغير مفهوم، لما حدث كل هذا و ما وصل بهما الأمر إلى هذا الموصل!لكنه كان ضعيفا أمام قوة أعتى منه!
تنهد بتعب و هو يستقيم في وقفته منزلا إيناء السقي بينما يهمس بحنين و هو يحادثها في الزهور أمامه.
_اه يا توليب القلب، ماذا تحكينه يا ترى؟! أين ذهب بك الزمان يا حبيبة الروح، هل يا تراك لا زلتي على عهد حبنا؟! و كل ما تظنين بي هل ترك في قلبك أي مشاعر تجاهي غير العتاب؟! ما التغيير الذي أفضته عليك هذه السنين يا زهرتي؟! ألا زلت مثلي ترجين اللقاء و تتمنيه؟! و يا خوفي أن لا يكون لفراقنا الطويل هذا لقاء، يا خوفي من ذلك يا نبض القلب و حياته.
ألقى نظرة أخيرة على الأزهار، ثم رفع وجهه للسماء مناجيا ربه.
_يا رحيم احفظها أينما كانت، فلتكن سعيدة و بخير، ائتمنتك يا ربي شريكة عمري و زوجتي، فأحفظها بحفظك.
دخل إلى البيت بعد أن حمل المذياع الصغير الذي يشغله دوما على نفس الأغنية.و قد كان يحيى على صوت العندليب الذي حمل قصص حبهما بوفاء! ارتفع رنين هاتفه ما إن تجاوز البوابة للداخل، فحمله و ابتسامة حنونة ترتسم على وجهه ما إن رأى الاسم المضيء على الشاشة.وصله صوتها المليء بالمشاغبة و الحياة.
_هل ستجهز لي الغذاء الذي طلبته منك؟!
حرك رأسه بيأس و هو يقول
_السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته. أنا الحمد لله بخير يا حبيبتي شكرا على سؤالك.
ضحكت سارة و هي تجيبه.
_و عليكم السلام و رحمة الله يا سيد قلبي، كيف حالك يا بطل؟! هل أعددت الغذاء يا أبا الأسود؟! حسناء ستأتي معي اليوم، أنا دائما أشكر طعامك أمامها فأضف وجبة إضافية من فضلك.
أجابها و هو يتجه إلى المطبخ.
_وجدتني الآن فقط سأهم بتحضيره يا سروري.
اتسعت ابتسامتها و هي تقول
_أتعلم أني أحبك جدا؟!
حرك رأسه بنفي و هو يجيبها
_بل أعلم أنك تحبين الطعام جدا، و قد تحبينني قليلا لأنني احضره لك.
ارتفعت ضحكاتها الرنانة و هي تقول
_تعلم أنك تظلمني كثيرا يا حبيبي، أنا فقط تحججت بالطعام لأسمع صوتك الغالي.
رفع حاجبيه بعدم تصديق و هو يقول
_صدقت حبيبتي. صدقت. متى ستأتين هل ستتأخرين في المشفى اليوم؟!
حركت رأسها بنفي و هي تقول.
_ساعتين و سأكون عندك، قد أصل اليوم قبل فؤاد.
ابتسم لها بحنان قائلا.
_حسنا حبيبتي أنتظرك. و كل ما تريدينه سيكون جاهزا.
نهضت من مكانها و هي تقول.
_أحبك جدا جدا يا بطلي علي أن أذهب الان لأكمل عملي، اعتني بنفسك، و لا تتعب في تحضير التحلية أنا سأحضرها.
__________
بعد مدة كانت أماني تجلس في شرفة غرفتها تقرأ إحدى روايتها بينما الشمس قد اختفت نهائيا و عوضها القمر لينير الليلة الظلماء. تحب هدوء الليل و عزف الرياح فيه، تحس أن عالما روحانيا ينفتح في هذه الأثناء، لقد كانت دوما من عشاق الطبيعة و الهدوء.تحب الغوص في ملكوت الطبيعة العظيم و تأمل الكون وقت يغيب عنها الضياء فيكشف الظلام أسرارا لا تنبعث إلى فيه؟
سمعت طرقا على الباب لتأذن للطارق بالدخول و هي تنزل الكتاب بعد أن حفظت الصفحة التي توقفت فيها، أتت السيدة سلامة مدبرة المنزل و هي تقول بلهجتها الحانية
--العشاء جاهز ابنتي.
وقفت من مكانها تدخل للغرفة و هي تسألها
_هل أتت أمي؟
حركت فريدة رأسها بنفي و هي تقول
_لا ليس بعد.
عقدت أماني حاجبيها بتوجس و قد بدأ القلق يتمكن منها،و الانقباض الذي أحست به في الصباح يعود إليها من جديد بصورة أقوى و هي تردد بتوجس
_كيف لا يمكن؟؟ أين تأخرت حتى هذه الساعة؟!
قالتها و هي تنظر للساعة المعلقة على الحائط. لتخرج من الغرفة بأكملها بسرعة و هي تفتح هاتفها لتتصل بوالدتها. لكن الهاتف أضاء في نفس اللحظة برقم أمها لتجيبها بسرعة تضع الهاتف على أذنها تسألها بلهفة حتى قبل أن تمنحها فرصة للإجابة
_أجل حبيبتي أين تأخرت؟!
فتحت أمنية باب غرفتها في نفس اللحظة لتجد أماني تتحدث في الهاتف. شاهدت بوضوح اصفرار وجه أختها فجأة بينما قبضت يدها اشتدت على الهاتف، حتى ابيضت أصابعها و اختلاجة غريبة تصيب وجهها، لتنظر إليها بتوجس و هي تلاحظ ترنح جسدها قليلا. اقتربت منها تحاول امسكها، و قلبها العليل قد أحس بالخطر.سألتها بتوجس و هي تنظر لها بخوف.
_أماني ما الأمر؟!
انزلق الهاتف من يد أماني و هي تنظر لأمنية بعينين دامعتين. قبل أن تقول بصوت مرتجف و غير مصدق.
_أمي في المستعجلات.أصيبت باختناق بسبب انفجار أنبوب غاز في الورشة.
اتسعت عيني أمنية بعدم استيعاب و هي تسألها
_ماذا؟!
لم تجبها و هي تدلف لغرفتها بسرعة لتخرج منها بنفس السرعة حاملة حقيبتها و مرتدية معطفها على عجل لتجري للأسفل. بينما تبعتها أمنية قائلة
_أماني انتظري سآتي معك.......

______________________________________
مساء الخير... هذه هي تجربتي الأولى بالنشر على الواتباد... أتمنى أن ألقى تفاعلا كي أكمل....
كل حبي و ودي....
♥♥♥

ذكرى التوليب.... الجزء الأول.... نورهان الشاعرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن