الليالي السبع

201 12 58
                                    

الليلة الأولى: العهد الثاني

كان لقاؤهما الأول في عهدهما الثاني حين لقيَها في مصعد البناء، وحينها هيَّجت في قلبه خيالًا أعاد له من سجيته التي كان يفقدها رويدًا.

كانت تحمل بين يديها قلمًا وكتابًا لا تُرى إلا بهما، وكان يحمل في وجهه ملامحَ بؤسٍ لا تفارقه.

كان له اللسان، وكان لها البنَان، فكأنما كانا جزئين لا يحيا أحدهما دون الآخر، أو كذلك كان يرى.

ولم يدرِ أحدٌ من ساكني البناء من أين جاء أو متى، بيدَ أنهم التقَوا يومًا هيكلًا عظامًا ذا لحيةٍ كثةٍ وشعرٍ طال كالنساء، في ثيابه المتربة كالمشرد، أو ربما كالمجنون.
ومن يومئذٍ وهم يلقَونه حتى اعتادوا وجوده بعد لأي؛ أن يروا الموت متمثلًا أمامهم جارًا.

هي وحدها من كانت تراه، بروحها الرقيقة التي لم تصدَّ عنها ذبابة، فحق لها أن لا تصده كما صده الناس، هي وحدها من رأته إنسانًا.

كانت في نظر الناس فتاة، وفي نظره روحًا.

...

بعد أن انقضى هزيعٌ من الليل وخلت الشوارع من أتقياء النفوس، كانت عائدةً إلى البناء الذي استأجر فيه أبوها قبل أن تولد، فهي حيةٌ فيه أبدًا قبل أن تجيء.
أما سينين، فكانت ليلته الأولى في عهده الثاني، وكان ماثلًا أمامه في الظلام البهيم إلا من بصيص نورٍ أزرقَ بجانبه الأيمن.

رآها مبتسمةً بغير سبب، حاملةً كتبها تعانقهن بيد، وفي يدها الأخرى انفرد كتابٌ كبيرٌ كأنه مذكرات.
مرت به كأنه طيفٌ لا يُرى، ولكن لم تمرَّ من عقله.

وبعد أن كان واقفًا ساعةً من الزمن تبعها إلى المصعد القديم، ودخله بعدها.
رأته أولَ مرةٍ ففزعت منه وأوجست منه خيفة، واتخذت لنفسها زاوية المصعد تكاد تعصر جسمها فيها عصرًا لئلَّا تقترب منه.

ركنت إلى الحائط مستندةً إليه، وفي كتابها المعزول خطَّت شيئًا لم يره.

"تكتبين نصيبي؟"
لم يكن سينين كثير الكلام، فخرج صوته متحشرجًا مرتجفًا، كأنما جاء من بئرٍ سحيقة.
عبث الخوف بقلب الفتاة ورجَّه رجًّا، قالت بصوتٍ لم تعهده من نفسها:
"ل.. لا، أراجع دروسي."
وكانت تلك أولى الأكاذيب.

"ألي أن أسألكِ ما اسمك؟"
قالها كأنْ قد كان عالمًا الجواب.
"عليَّة.."
وكانت تلك ثانيهما كما يرى.

بلغ المصعد طابقها بَدِيًّا، ثم أنزله في طابقه الأخير.
لم ينم تلك الليلة وسنًا ولا سِنَة، وخرج إلى شرفته يطالع شرفتها، وفي ذهنه صورتها التي أعانته على صروف الدهر.
كانت هي هي كما عهدها، لم يرَها من زمانٍ بعيد، ولكنه ما زال يذكرها ذكرَ الابن لأمه، وذكرَ الأم لابنها.

كانت هي هي، الشعر البني المُسدل، والعينان الذابلتان.
كانت هي هي، ببشرةٍ كغمام السماء الصافي، لا يشوبها إلا شامةٌ في ذقنها تجمّلها؛ حسنةَ العيوب.
كانت هي بجسمها البضّ، وقوامها الممشوق، وابتسامتها الدائمة، وورقتَي الورد على شفتيها.

سينين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن