شهداء، منذ نصف قرن ينامون هناك.
إلى أحمد، والدي الطيب.
أغفر له أنه سافر إلى باريس في وقت مبكر، ولم يكن حاضرا يوم ولادتي، صباح يوم الاحد، أول عيد الأضحى، الوافق لليوم الثامن من شهر أوت في التقويم الإفرنجي، على الساعة السابعة والنصف صباحا، من صيف 1954.
وأغفر له أذاه لأمي التي كلما تذكرته نسيت كل شيء، وقالت: كان رجلا طيبا، اختار ما يختاره الرجال الكبار في الأوقات الصعبة، وهذه وحده كاف لأن يمسح كل أخطائه السابقة، لقد أنسحب من هذه الدنيا وعمري أقل من عمر زهرة برية، ما زلت ألى اليوم أنتظر عودته لكي أتمكن من تحمل مشقة الحياة وقسوة عزلتها.
وأغفر له موت زوليخا، أختي الطيبة، غبنا على غيابه، عندما فتحت عينيها وجدته أمامها، وعندما أغمضتهما للمرة الأخيرة، نادت عليه بأعلى صوتها، فلم يصلها إلا صداها مبحوحا ومجروحا.
وأغفر له تيه الغربة القاسية، وعشقه لأمرأة غريبة، كادت أن تنسيه وجه أمي الطيبة، بسطوة حبها وشفافيتها، أنا لا أذكر من صورتها القديمة التي عثرت عليها ضمن أوراقه القديمة، الشيء الكثير، سوى شعرها المقصوص والمتدرج مثل شعر ممثلات هوليوود، وعينيها الهادئتين المليئتين بالحماقات المكشوفة، وابتسامتها التي لم تكن كافيه لإخفاء جنونها.
وأغفر لعشيقته كل الحماقات التي ارتكبتها معه، لأنها علمته كيف يعيش حياته حتى وهو على كف عفريت، وكيف يعود إلى وطنه في عز حبه لها، ليموت على تربته الأولى صافيا كقطرة ماء سقطت من شجرة عاليه ذات فجر ربيعي.
وأغفر لباريس، مدينة الدهشة والحماقات والغواية، التي كانت سخية معه بطريقتها، فمنحته الحياة بيد، وسرقتها منه باليد الاخرى، في غفلة منه.
وأغفر للهواء الساخن الذي شرب من دمه روحه، وانسحب بهدوء كأن شيئا لم يكن.
وأغفر لتربة بلدي القاسية، التي أكل ربيعها وعفويتها وعذريتها، اليوم، الإسمنت المسلح والخوف، لأنها شربت من دمه ذات صيف من سنة 1959،ومنعتني من أن أشبع من ملامح وجهه الطيبة، وأمتلئ بنور عينيه.
وأغفر لله الذي صنع له قدرا استثنائيا لم يكن يريده ابدا، بل لم يكن يتخيله، هو العاشق للحياة والهبل، فسرقه قبل الأوان، لينساه في غرف جنة التيه الأبدي نحو الأرض، ليعاود ارتكاب نفس حماقاته الاولى، في الحب والحرية.
عذرا، لا أغفر لورثاء التربة والدم، لأنهم أخفقوا في أن يبنوا وطنا للحب والخير، كما عاهدوه، وحولوا التاريخ إلى لعنة، والبلاد إلى حفنة رماد ومرتع للقتلة والعصابات، منحوا والدي وسام الشهيد، ولم يمنحوه قبرا بشبرين، نزوره كلما شدنا حنين الفقدان إليه، كل ما وجده ورثاء التربة والدم، هو انهم سيجوا المقبرة الجماعية التي توجد بها رفاته ورفات رفقائه، سنوات طويلة، قبل ان يقدموا على حفر سد كبير، في المكان نفسه، لكن السد ظل حافا إلى اليوم، وتشققت تربته الصلصالية التي كانت تمتص كل قطرة ماء تأتيه من الوديان المجاورة أو من السماء، وكأن الله بسماحته العليا، رفض أن تُطمر ثانية، رفات الشهداء الذين ينامون هناك في صمت منذ نصف قرن، بلا شواهد ولا قبور... ولا صوت.
(واسيني)
أنت تقرأ
"جَسَدُ الحَرائِق"
Ficción histórica"بهذا النص الطويل، يكون واسيني قد خرج من دائرة القصة القصيرة التي مارسها طويلا، إلى عالم الرواية الذي ينتظر منه ومن جيله الكثير. ملحمة الجزائر كبيرة ومعضلات العرب لا تحصى، تحتاج إلى أقلام حيوية وحساسة قادرة على لمس العادي وتحويله إلى مادة حيوية جدير...