الفصل الاول

2.5K 43 10
                                    


الفصل الاول
سديم الباروك

رمت كتابها على سريرها الحديدي العتيق وأسرعت نحو الحمّام ترفع شعرها الكثيف على شكل كعكة فوق رأسها تغطيه بطاقية بلاستيكية كي تقيه من التبلل، خلعت ثيابها وغمست جسدها تحت المياه تصرخ منتفضة من أثر البرودة التي صعقتها، إذ كعادتها من إستعجالها لا تصبر على سخونة المياه بحيث ما تلبث أن تنزل تحتها حتى تخرج.....
إرتدت زي العمل الذي هو عبارة عن بنطال كحلي وقميص أبيض، لملمت شعرها بظفيرة وخرجت من غرفتها على عجل.
«أنا ذاهبة جدّتي، هل تحتاجين لشيئ؟ » هتفت سديم تشبك حبال حقيبتها بكتفيها إستعداداً للمغادرة.
« ولكنّ، الم تطلبي من مديرك أن لا يعيّنك بالنوبات الليلية يا إبنتي، أرجوك، عملك الليلي يقلقني ويبقيني صاحية الى أن تعودي الى المنزل سالمة» تذمّرت جدّتها كعادتها وسديم حضنتها برفق تخاطبها بنبرة هادئة« أنت تعلمين جيّداً أنّه لا يناسبني الاّ النوبات الليلية جدّتي، بحيث صباحاً عندي محاضرات ومساءً علي التحضير لمحاضرات اليوم الثاني، لذا لا يتبقى لي سوى فترة الليل، وعلى كل حال النوبات الليلية أقبض مقابلها مبلغاً أكبر من النهارية، لذا كفاك تذمّراً وقلقاً يا جدّتي الحبيبة»
أخبرتها تطبع قبلة على رأسها وخرجت من المنزل على عجل غافلة عن نظرات جدّتها القلقة والمتحسّرة، حزينة على وضع حفيدتها التي تعمل ليلاً نهاراً، وصيفاً شتاءً لتأمين إحتياجات المنزل وتكلفة جامعتها التي إنتسبت اليها حديثاً.
إنّها عجوز أنهكها المرض والكبر وما عادت قادرة على دعمها أو مساعدتها مادّياً، وما كانت تحاول توفيره إستهلكته على علاجها وأدويتها التي لا يمكنها الإنقطاع عنها لأي سبب من الأسباب.
ومع كل هذا وبالرغم من يقينها أنّ عائلة والدها قادرة على تأمين كل إحتياجاتها لها الاّ أنّها لا تستطيع العودة بها اليهم رضوخاً لرغبة والدتها التي هربت منهم منذ عرفت بحملها بها، هربت كي تبعدها عن بيئة والدها وأهواله وتمنح إبنتها حياةً طبيعية وهادئة، ولكنهم للأسف عثروا عليها بعد فترة قصيرة من ولادتها، وعندما فعلوا عادت معهم دون أن تقدم على ذكر سديم لهم التي تركتها بعهدتها في سبيل منعهم من الوصول اليها بأي ثمن، ومنذ ذلك اليوم إنقطعت أخبار والدتها عنها، لا تعلم ما إذ كانت ما تزال على قيد الحياة أو فارقتها، إذ أن الأخيرة لم تحاول التواصل معها بأي طريقة، المسكينة، لقد فضّلت أن تتخلّى عن إبنتها كي تحميها منهم وتمنعهم عنها، وها هي تفعل ما بوسعها لحمايتها، ولكنّها أصبحت عجوز أنهكها المرض والكبر، وخوفها عليها يزداد سنة بعد سنة، خاصّة بعد أن أتمت الثامنة عشرة وبدأت قدرات الفتاة تتبلور وتظهر للعيان، وقريباً جداً ستصبح مكشوفة لبني جنسها، سيتعرفون عليها بمجرّد إعتراض دربها درب أحدهم، وهذا ما لم تعمل له والدتها حساب عندما تركتها بعهدتها ورحلت كي تمنعهم من الوصول اليها عبرها.

*********************************

دخلت سديم الى الحانة التي تعمل فيها من الباب الخلفي، خلعت معطفها وعلّقته مع حقيبتها بخزانتها الخاصّة وإرتدت مئزرها الذي يحمل إسمها وخرجت إستعدادً للبدء بعملها في خدمة الطاولات.
« مرحباً سديم، لقد وصلت بوقتك المناسب» رحّب بها الطاهي يجهّز أطباق الطلبيات مردفاً« هذه الأطباق لزبائن طاولة رقم ٨، لقد أجلستهم رنيم فيها وأخذت طلباتهم لريثما تحضرين »
« آه، حسناً» أخبرته بإرتباك واضح على ملامحها، إذ لم تتوقع أنها ستبدأ حالاً بتوزيع الطلبيات.
«من الأفضل أن تأخذيهم على دفعتين» أخبرها يناولها الدفعة الأولى من الأطباق وهي حدّقت بالصينينة بذهول، تشاهد الأطباق جميعها مليئة بشرائح اللحم المشوية التي بالكاد سطعتها النيران، إذ ما تزال تسبح بالدماء الموشّحة بعلامات الشواء، وشرائح البطاطا المقلية.
« سديم، يا فتاة» هتف بها الطاهي يحاول إخراجها من ذهولها منبّهاً« إنّهم زبائن جدد، أحسني خدمتهم كي يرغبوا بالعودة، إتفقنا»
ومأت له تحمل الصينينة وخرجت بها نحو صالة إستقبال الزبائن متوجّهة مباشرة نحو طاولتها، تشاهد الرجال الأربعة الجالسين حولها، رجالاً ضخاماً ذات هيئات بدائية، مسيطرة، مثيرين رعشة مبهمة الأسباب بجسدها.
وصلت اليهم هاتفة بنبرة مرحّبة تتحاشى النظر الى أحد معين منهم، تشعر بالخوف الغير مبرر يتسلل الى أوصالها، كأنّ هناك غمامة سوداء كثيفة عبقت بصدرها في ذات اللحظة التي وصلت فيها اليهم.
وضعت الصينية جانباً مباشرةً بتقديم الأطباق مما إضطرّها للتواصل معهم بنظراتها التي ما لبثت أن رفعتها حتّى إصطدمت بعينين حادّتين تراقبانها بتمعْن.
إرتبكت يهتز الطبق بكفّها على وشك أن تفقده، فسارع الأخير لإستلامه منها مسبباً تبعثر كيانها لحظة خرج بها من تلك اللحظة تشعر بنفسها تقع بهوّة مظلمة لا قرار لها، واجدةً نفسها بعد برهة وسط معركة طاحنة بين ذئبٍ أسود ووحشٌ آخر لم تتمكن من تحديد طبيعته، وحشٌ رأته من قبل في كابوسها المتكرر، ولكنّه كان يقاتل ذئباً آخر، ذئباً رماديّاً فاتح اللون أكبر حجماً وأكثر شراسة، صرخت بذعر عندما نال الوحش من الذئب منقضّاً على عنقه تسمع صوت طرطقة قويّة تشاهد الذئب الأسود يتحوّل أمام ناظريها الى إنسانٍ عاري الجسد.

سديم الباروك لكاتبة أمل القادرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن