مُهمَّش و لكنّه يبتسم ، فقير جدًّا و يحبّ الأغنياء، تعيس و لا يمانع ، يقتادونه إلى المقصلة فيُقبِّلهم و يشدّ على أيديهم ... هكذا بات الإنسان ضعيفا بعد أن كان سيّد الوحوش ؛ هكذا صار الإنسان أضحوكة عصره . فمالذي تغيّر ؟ ما الذي حلّ بهذا الكائن العظيم ؟ كيف تحوّل أشرس الحيوانات و أشدّها فتكا إلى مهرّج ؟
كان علي رجلا مهذّبا له من الأبناء اثنان و يحب زوجته على أنه لم يتسنّى له التّعبير عن هذا الحبّ لاهتمامه بشؤون الحياة . و قد كان من الصّعب على علي ( أو زوجته) أن يضفر بقوته و قوت أبنائه رغم أنه اعتاد على الخروج منذ أوّل ساعات الفجر و الرّجوع قبيل منتصف اللّيل بكثير .. و أمّا قطتي "كلارا" التي ربّيتها طيلة ثلاثة عشر عاما فقد اعتادت على أن "تسرق" من طعام الجيران و طعامي ما تشاء و تصطاد الطيور و الحشرات بل و على أن تفترس الأسماك و هي في سلّة بائعها يوم السوق الأسبوعية. و قد أنجبت كلارا طوال حياتها - و لست أبالغ- ما قد يزيد عن الأربعين قطًّا يغادر كل منهم المنزل عن طواعية أو رغما عنه ريثما أقدّر و تقدّر كلارا أنه صار قادرا على البقاء بمفرده . و كان علي و أمثاله تعساء و مهذّبين للغاية على خلاف كلارا التي كانت من فرط سعادتها و همجيتها ترفض طعاما قدّمته لها ؛ و لم أكن أعطيها الطعام كثيرا فقطتي أقدر على البقاء من علي ...
و قد عمد في مرّة من المرات أمثال علي إلى تسميم كلارا فأعطيتها بعض الحليب و قامت سليمة في اليوم التالي بعد أن كادت تفارق الحياة . فضحكتُ و ضحكت قطتي من حال علي بعد أن كان يبكينا. و قد ماتت قطتي ميتة طبيعية و أما علي سيفارق الحياة التي لا يعرفها في حال يرثى لها... هكذا هو الإنسان إذا ! سجين و يكره رائحة الحرّية. ضعيف و يكره القوّة : إنّه العبد الوحيد في الغابة !
فمالذي أوصل علي إلى هذا الحال ؟ مالذي يجعله فقيرا على الدّوام ؟ لما لا يكشّر علي عن أنيابه ؟ لما يموت صغار علي قهرا و يعيش أبناء كلارا بكرامة في حين أنّ علي أذكى ، أضخم و أشرس من كلارا ؟
لعلي أنصاره : ثلة من "الواعظين" و "الفاضلين" الذين يفوقونه ثراء و نفوذا و أهمية بأضعاف و لكنّهم يشجّعونه على براءته الباعثة على الاشمئزاز و طيبة قلبه التي تزداد كلّما ازداد جوعا و فقرا. الواعظون يحزنون إذا ما تعذّبنا و لا يغضبون... ينصحون أمثال علي بالتريث لأجل التّريّث و الصّدق لأجل الصّدق و الأمانة لأجل الأمانة . و علي لا يدري كيف يُطبخ الصّدق و الأمانة و التّريّث على العشاء. الواعظون أصحاب القصور و الولائم ينظرون إلى السماء و علي ذو البطن الخاوي يتلوَّى في فراشه من فرط جوعه و قهره... هؤلاء هم ،حتما، أعداء الإنسان لا يريدون له الازدهار. فمتى يعي علي بوضعه ؟ متى يزأر الوحش و يسحل أعداءه في الشّوارع ؟ متى نستعيد مكانتنا المسلوبة منّا ؟ متى نستعيد إرادتنا ؟
إنني أُفضِّل أن أزحف عاريا في الغابات و أتسلّق الجبال لأنقضّ على فرائسي على أن أعيش ذليلا مقهورا في عالم كثرت فيه التّرّهات . إنني كلّما رأيت أبا و ابنه الهزيل يبكيان قهرا و يتضوّران جوعا جُنَّ جنوني و انتابني غضب شديد. إنني لا أطيق الشّفقة و الحزن فهما ، على نبلهما ، مدعاة للاستسلام . و ليس هذا ما نحتاجه للخلاص من حالنا التّعيس .
أكرّر : الحلّ في الغضب لا الحزن ؛ في الشَّر لا الخير الزّائد عن اللّزوم ؛ في الزّمجرة لا الهمسات ...