في بلاد الجرذان، بلاد الخير و الأمان، أينما لا يجوع حيوان و لا ينقطع الإيمان، يعيش جُرَذان حُرّان : "حْمِدْ" و سي البُرني.
و أما "حْمدْ" فهو ابن السبعة عشر ربيعا يقطن في قرية "جُريِّذ" و يزاول دراسته بمعهد "ابق جرذا إن استطعت" في مدينة سيدي جرذون التي تبعد عن قريته قرابة الثلاثين ميلا. و أما سي البُرني فهو ابن السبعة عشر ربيعا أيضا - لعل ذلك كل ما يتشاركه مع "حْمِدْ"- :جرذ نظيف يقطن في حي النظافة الراقي بمدينة "جرذاج"...رنّ مُنبّه الخامسة صباحا للمرة الأخيرة معلنا نهاية تخبّط "حْمدْ" في فراشه الخشبي المهترئ فزحف الأخير نحو ساعة جد جدّه و قد لعن في دقيقتان كل ما استحق اللّعن. ارتدى الجرذ الصغير "جروده" و انتعل نعاله الجديد الذي اشتراه من السوق الأسبوعية لقاء ثمن باهض جدّا : قشة كاملة أو ما يعادل دولارا كاملا في بلاد العدل. سار "حْمدْ" نحو المطبخ مطأطأً رأسه كعادته حيث وجد قطعة من الكسرة التي أعدتها أمه قبل أن تنطلق نحو الأدغال لجمع طن من البرتقال و جني قشة أي دولار.
ما استمتع "حمدْ" ببعض من فطوره إلا و قد سحق مزمار العربة الكبيرة الصغيرة طبلة أذنه اليمنى. فهرول نحو باب جحره استجابة للنداء الأول و الأخير دون أن ينسى حمل جعبته معه. سحقا له اذا فعل !
و أما العربة الصغيرة فهي عربة عجيبة غريبة؛ يحمل ظهرها المتسخ خمسة خراف أي أنها تقدر بالراحة على حمل أربعين تلميذا و هو ما جعل سائقها يستغلها لفائدة قطاع التعليم قصد مضاعفة أرباحه... صغيرة بالنسبة للخرفان التي لا ترضى بالذل و الهوان و كبيرة بالنسبة لجرذون و رفاقه حيث كانت طأطأة الرأس ملاذا لهم من البرد القارس و طريقة لضمان تعليم أغلبهم...
سارت السيارة القذرة في المسالك الوعرة حيث حملت نصف جرذان الجبال على صغرها. تطلّع "حْمِدْ" في أنابيب المياه و قد خطر بباله ألف سؤال. "لما ينزل ماء قريتنا العذب منها و لا يصعد ؟ لما يضطر جحشنا لحمل براميل ماء الواد و لا نستفيد من عيوننا العظيمة؟.."
قاطعت مبروكة - و هي الجرذة الوحيدة التي رفضت الأدغال- صمته بقولها :" هل أتاكم حديث نوردين ؟ فقد أردته العربة قتيلا أن سقط منها في الصباح الباكر حذو مدرسته. لترقد روحه بسلام، السلام الوحيد"... توقفت العربة أخيرا فانهالت حجارة سكارى "سيدي جرذون" على ممتطيها الذين سارعوا الخطى نحو باب "ابق جرذا ان استطعت" كما يسارعون كل يوم...
اقتحم الأستاذ معمر صاحب العصا التي لا ترحم قاعة الدرس و كتب على السبورة دون أن تنبس شفتاه بكلمة :" مادة المواطنة - الدرس الأول - العدل و المساواة" ثم استهل كلامه بقوله المقتبس عن كتابه المدرسي :" كل الجرذان متساوون في الحقوق و الواجبات. و تضطلع الجرذومة ( مجلس صناع القرار ) بمهمة ارساء العدل أي المساواة " فصفق الجرذان و تمنت مبروكة لو كان نوردين حاضرا على هذا الكلام العظيم...استيقظ سي البرني السابعة و نصف صباحا على أنغام البيانو الآتية من غرفة أبيه - فنان و طبيب تخرّج من كلية الطب حذو قصر الوالد الذي يشتغل صديق المقيم العام تيمنا بجدّه صديق الجرذاي-. على كل حال، خرج سي البرني من غرفته و قد عاتبته أمه على ارتدائه البيجاما رقم أربعين و التي لا تلائم طقس اليوم - أمه طبيبة حالها كحال زوجها -...
في الحمّام، أين يتدفّق الماء العذب الدافىء مجهول المصدر كما يتدفَّقُ ماء وديان "جُريِّذ"، اغتسل سي البرني على رسله بعد أن أزاح مساحيق تجميل أمّه. -و التي صنعها على الأغلب ملايين من أمثال "حْمد" و أمه في كل بقاع كرة أرض الجرذان-..
على طاولة الفطور، وضعت عشرات المأكولات تتصدرها ثلاث حبات برتقال من القرى تكلّفت ،بعد التخفيض ، قشة - فثمنها لا يمكن أن يقل عن قشّة على أي حال-....
سار الجرذ الصغير نحو المرأب و امتطى سيارة اليوم "جي كلاس الطراز الأخير" و التي اختارتها أمه تفاديا للطريق "الوعر" على حد تعبيرها ؛و اقتنصت مكانا بين موكب سيارات الصباح أمام معهد "جرذنا الحبيب- 50 قشة الساعة"...
طرق الأستاذ " مسيو براون" باب قاعة الدرس و ولجها في ترن و كتب على السبورة بعد أن ألقى التحيّة بكلمة :" مادة المواطنة - الدرس الأول - العدل و المساواة" ثم استهل كلامه بقوله المقتبس عن كتابه المدرسي :" كل الجرذان متساوون في الحقوق و الواجبات. و تضطلع الجرذومة ( مجلس صناع القرار ) بمهمة ارساء العدل أي المساواة " فأصغى الجرذان..بعد عام، صدرت نتائج الامتحان الوحيد الكبير العادل، تطلّع سي البرني في نتائجه الممتازة و أردف :" جميل، يمكنني ولوج كليّة الطب على غرار رفاقي."
و أما "حْمِدْ" فقد تقرّر بأن يدرس الزخرفة وحيدا بمدينة سيدي جرذون على خلاف رفاقه الذين سيمتطون العربة الكبيرة الصغيرة لعام آخر.
للمرة الأولى و الأخيرة، ابتسم "حْمِدْ" و سي البرني في الآن ذاته !