هذا رجل من أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم و ما أجمل أن تبدأ به الحديث.
غرة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا وشبابا... يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: " كان أعطر أهل مكة"... ولد في النعمة وغذي بها، وشب تحت خمائلها. ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به مصعب بن عمير". ذلك الفتي الريان المدلل المنعم حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحول إلى أسطورة من أساطير الايمان والفداء ..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين. انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام ورباهم "محمد" عليه الصلاة والسلام.
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا... لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم.... "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا هم لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير" التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن أمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء إلى دار الأرقم تسبقه أشواقه .....
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العلي القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متالقة على شفتيه، ثم أخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..! ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه وكانه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب. فكانت السكينة العميقة عمق المحيط وفي لمح البصر كان الفتى الذي أمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنه وعمره، ومعه من التصميم ما يغير سير الزمان..!!!
كانت أم مصعب "خناس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة... ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه. فلو أن مكة بكل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هو لا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين...
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا. وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بإيمانه وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم اسلامه
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات لا يخفى فيها ،سر، فعيون قريش وأذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية... ولقد أبصر به عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم ثم راه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها شاخص إلى أم مصعب حيث القي عليها النبا الذي طار بصوابها....
ووقف مصعب أمام أمه وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم ويملؤها به حكمة وشرفا وعدلا وتقى و همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم ما لبثت أن استرخت وتنحت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع. ولكن اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أن تثار للالهة التي هجرها بأسلوب آخر.
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها وحبسته فيه وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذلك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النباء و غافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوابا...
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر إلى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فإن تجربة إيمانه تمارس تفوقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد صلي الله عليه وسلم نموذجه المختار، واطمأن مصعب إلى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم...
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيا... ذلك أنهم رأوه يرتدي جلبابا مرقعا ،باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة وألقا وعطرا وتملى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتالقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال: " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله ".!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!! ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لمن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه... وانها لتعلم صدق عزمه اذا هم وعزم فودعته باكية، وودعها باكيا... وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها اذهب لشأنك لم أعد لك أما اقترب منها وقال: "يا أمه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله".... أجابته غاضبة مهتاجة: " قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي "..!!
وخرج مصعب من النعمه الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتائق المعطر لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب يأكل يوما، ويجوع أياما ولكن روحه المتألقة بسمو العقيدة والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا أخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة ....
أنت تقرأ
رجال حول الرسول للكاتب / خالد محمد خالد
Historical Fictionكثير منا يريد ان يعرف عن صحابة رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام اريد ان اجعل هذا النقل عن الكاتب الجليل / خالد محمد خالد عملا لوجه الله سبحانه وتعالي ابتغي به رضاء الله سبحانه وتعالى والاجر عن النقل