يعيدني إلى الواقع طرق الباب ساعي البريد وهو ينتظرني، حينها أجفف دموعي سريعاً لأفتح الباب و أحمل رسالة أعلم أنها الأخيرة من محبوبي، تبدو رسالتي مُبللة هل بسبب المطر أم أن الحبر قد ساح من دموعه وهو يكتب رسالتنا الأخيرة؟ توجد قطرات دائرية صغيرة و جافة في الورقة عرفت أنها من دموعه، لِمَ تبكي يا روح قلبي .. ربما بدأ خريف مشاعرنا مبكرًا وبدأ موسم المطر ينهمر بغزارة على قلبينا.
ويتسلل فجأة إلى ذاكرتي نظراته وعيونه أول مرة التقينا، ياه ما أعذب عيونه، ذبت في نظراته وانعكاس الشمس الدافئ لكي يظهر لون عيونه العسلية كالشهد. وغمازاته الخفيفة التي تظهر عندما يحاول إخفاء ابتسامته عندما التقى قلبينا، مرور طيفه إلى ذاكرتي قد أحيا قلبي التَعِبْ. و آخرة جملة كتبها قرأتها بنبرة صوته الهادئ وحروفه التي تخرج ببطء من فمه فهو يحب الحديث بروية وكأنه يختار كل كلمة بعناية قبل قولها وصوته حنون ودافئ وكأنه يقوم بتقبيلي مع كل حرف. في يومٍ ما عندما اختبأنا بعيدًا عن أنظار أهل القرية عند أطراف البحر وكان يجمع لي الصّدف، سألته ما سبب تغير نبرة صوتك عند حديثك معي؟ فقال لي وجب عليّ الحديث بِلُطف لكي لا أخدش روحَكِ العَذِبة. ألا يعلم بأن كل كلامه عَذبٌ بالنسبة إليّ.
أخذت الرسالة من راعي البريد وظَل واقف عند الباب يرى ردة فعلي على الرسالة ولم ألحظه إلا حين قال يوجد رائحة زكيّة وهو يحملق في عينيّ بفضول. شكرته بقطعة من كعك الليمون وذهب، فتحت الرسالة وكانت يداي ترتجفان بسبب اضطراب مشاعري عند حملي لهذه الرسالة الأخيرة. قرأت كل حرف بعناية بصدى صوته إلى أن وصلت إلى آخر جملة كتبها في رسالته "ومن لديه عينان تريان بصدق، سيرى نوركِ و يفتتن به. وداعاً يا عَذِبة الروح والقلب" هل هذا آخر وداعاً بيننا؟ هل هذا يعني بأنك ستتركني أذهب لشخص آخر؟ لِمَ تُريد أن يفتَتِن بِنوري غَيرُك؟ ألستُ أنا مَحبوبتك؟ وليس من حق أي أحد أن يضع عينهُ عليّ وإلا اقتعلتهما منه؟ هل بهتْت مشاعرنا حقاً أم أنه عدم قبول والدي لخطبتنا مرات عديدة هو السبب؟
أتعلم يا محبوبي.. حتى وإن حملني الزمان بعيدًا عنك وفصلت بيننا الأيام والظروف، لا تنسى بأن هنا يوجد قلب لأجلك حتى في صمتي وَ وحدتي وإن قلّتْ أحاديثي، لا يعني بأنني قد فقدت حبّك، بل لأنني هذا بسبب تعبي لأنني فقدت شغف الكلام في هذه الحياة، فا لا شيء يوجعني بعد هذا الرحيل، ولا شيء يعيد لي صبابة الهوى والعِشّقْ كَحديثنا، لَهفتي وشوقي لكْ وحدكْ، أنتْ نجمي الوحيد. كم أحب وأميز النجوم. لذلك ميزتُكْ أنتْ وحدكْ من بين العالمين.
سَرحتُ بِطيفه المؤنس و رأيت الطاولة بها كتاب توقفت عن قرائته لأن تفكيري عن الرسالة قاطعني عن إكمال الكتاب. يؤلمني قلبي لدرجة أريد أن أعيد بالزمن إلى أول مرة التقينا، إلى لحظاتنا الصبيانية، إلى أول رسالة كانت بيننا عندما كتبت لي أحبّك في رمال البحر لأنك كنت تخجل من قولها، إلى احمرار خديّ وضربات قلبي السريعة، نعود إلى أول لقاءٍ عندما التقينا في منزل السيدة شارلي لأنها كانت تقيم حفلة بعد قدوم حفيدها الأول. كنت دائماً ما أستعير الكتب من السيدة شارلي، كانت تنهم في الكتب بطريقة تُدهشني، في الحقيقة هي من زرعت بقلبي حُبّ القراءة، وأخبرتني أن الشخص القارئ بإمكانه السفر إلى عوالم ومدن ويحس بالمشاعر فقط من القراءة. كنت أقرأ كتاب الشعر الذي أهدتني إياه السيدة. وقفت عند قصيدة المطر لبدر السياب على شطر "وبعد غدٍ تعود، لا بد أن تعود! " شطر مشحون بالرغبة في العودة واستدراك بعد الطلب يحمل كل معاني الشفقة والطلب والتمني والترجي، وكل أفعال التوسل بدون أي لفظ دالٍ عليها!
نمت ليلتها وأنا أتأمل النجوم من النافذة، يا نجمتي جمان، هلا أعطيتني بعضاً من بريقك فإني أفقد قطعاً كبيرة مني، على الرغم من ذلك فإنه يوجد أمل صغير في قلبي يشبه حجم الثقب الذي في دراجة ساعي البريد.. أنه يوماً ما سيحل الصباح بي، وأنا على الحال الذي لطالما تمنيته، وفي فترةٍ ما لن تُشرق الشمس إلا ويسبقها شروق قلبي.
YOU ARE READING
سر الزمن
Short Story" زمن " كلمة يكون نطقها بطريقة حميمية توحي بعمق المعنى ! كلمة " زمن " هي عبارة عن إنعزال حرف الزاء ولفظه وشكل حرف الميم ونطقه المتعانق مع حرف النون. والمعنى هو عملية تقدم الأحداث بشكلٍ مستمر وإلى أجل غير مسمى بدءًا من الماضي مروراً بالحاضر وحتى المس...