مشهد متكرر....قَرْع المقالي و أكواب الشاي الزجاجية الصفراء في المقاهي، و ارتفاع مزيجٌ من روائح الخمير و الفاصوليا إلى الشرفات في عمارات المعلا في قلب محافظة عدن في الجزء العتيق منها، و جعجعة البشر ما بين آتٍ و ذاهب، هذا لعمله، و هذا لدكانه، و تلك لدوامها، و تلك لدراستها، مشهد متكرر متكرر متكرر لابد لابد لابد أن يحدث كل يوم.
"يلا معليش"
تنهدت نجمة، الشابة الممشوقة القوام ذات الشعر البني الغامق الطويل، و أغمضت عينيها السوداوان، بعد أن ألقت نظرة من نافذتها على ما يحدث يومياً أسفل الشقة التي تسكنها في المعلا، تَكُرُّر هذا المشهد يومياً يصيبها بالضجر، لكنها تعرف أن هذا الملل يعني أن حياتها على ما يرام "الحمد لله" تكررها نجمة على لسانها كلما تذكرت.
من ضمن واجباتها المتكررة، تجهيز ابنتها عدن، و ابنها عمران، للمدرسة، و يدخل ضمن ذلك اللباس و الإفطار ثم النزول معهما أسفل العمارة تحت شمس الصباح الساطعة سطوعًا ليس بلطيف و انتظار باص المدرسة لأخذهم، الصاخب بالأطفال الذين لا يجلس أحدهم في مكانه و لو أراد.
و ما إن أغلقت بابها بعد رحيل أولادها و همها بنزع حجابها هروباً من خنقة الحر، إذ بذات الباب يدق دقاً جعلها تزفر تململاً لأنها تعرف من صاحبه.
"مين؟"
"أني أني"
"منو انتي؟"
"اوووه يا نجمة يا لَوَكْ قده كل يوم أجي و لازم تفعلي لي دي الحركة!"
فتحت نجمة الباب لتندفع امرأةٌ نحيلة، تنزع صنادلها و حجابها هي الأخرى، و كأن مغناطيساً يجذبها إلى المطبخ "اووه يا نجمة عادك ما صلحتي الشاهي؟" سألت في وقاحة.
"كم مرات أفهمك إنه أني أنزل استقيم مع الجهال لما يجيلهم الباص يا أنيسة، لكن يعجبك يععععجبك تناجمي من الصبح" أجابتها نجمة.
"قده اسمك نجمة معناته يعجبك المناجمة"
"......................"
"بس لا تشمقيش بيقرح لك عرق، خلاص أني اللي بأصلح انتي روحي جسي"
و شمرت الجارة أنيسة عن ساعديها في حماس و هي تخلط مكونات الشاي و على وجهها ابتسامة كابتسامة السحرة، ذلك ما خطر في بال نجمة و هي تتركها و تذهب و تجلس، هذه الأنيسة زوجها يعمل طوال اليوم و لا يعود إلا مساءً و ليس لها أولاد، فلعلها تشعر بالوحدة بمفردها، فلا بأس من تحملها، و هكذا استرسلت نجمة في تفكيرها حتى أتاها الشاي أمامها، و جلست بجانبها الجارة أنيسة و ارتشفت رشفة.
"مدري كيف تقدروا تشربوا و هو يفور كدا" سألت نجمة.
"اوه ما يقرح المزاج الا و هو يفور" ردت أنيسة و هي تمسح شفتها.

أنت تقرأ
الغربة المحمودة (رواية باللهجة العدنية)
Художественная прозаنجمة... هي أم لطفلين، ذات يدٍ كريمة و سخية و قلبٍ صافٍ، تصدمها المواقف السيئة ممن كانت تحسن إليهم بعد أخبار عن اختفاء زوجها الغني في ظروف مشبوهة، لتستحيل حياتها صعوبةً و معاناة بعد انقطاع أخبار زوجها عنها وانقطاع المصروف الذي كان يرسله إليها، لتضطر...