وابل من اتصالات ورسائل نصية لم يُرد عليها، جعلتني أُلغي الذهاب لعملي، ولم اخف هذه المرة من سخط مديري عليّ. توجهت لشقته للاطمئنان عليه، فلم أعتد تجاهله لاتصال واحد مني، ثم إنه بعد ذلك مصاب بالسرطان. خفت أن يصيبه مكروه، أكره نفسي عندما أفكر بهذا الأمر، لكن خوفي عليه يجعلني مطمئنًا عنه.
وصلت، وإذا بالباب مفتوح على مصراعيه. أيعقل أنه خرج وتركه مفتوحًا؟ أم هل يعقل بحكم أنني آخر من خرج الليلة الماضية أنني تركته مفتوحًا؟ يستحيل، أتذكر أنه أغلق الباب حينما كان يلح علي أن أبقى لمزيد من الوقت أو أقضي الليلة هناك، وكل ما فعلته أنني أدرت ظهري له ثم أكملت سيري، وقلت ما يقوله كل موظف بسيط
"لدي عمل بالغد، كما أنك تعرف أن مديري لن يتسامح معي"أخيرًا، وطأت قدمي ذلك المنزل الذي كنت ألوذ إليه حينما أكون محملًا بأعباء هذه الحياة. دخلت بخطوات ثقال، ولأول مرة يخالجني هذا الشعور الغريب. ثم تقدمت عبر الممر متجهًا لغرفة المعيشة، أنادي باسمه بينما ذلك الشعور يزيد قلبي وهنًا ورهقًا. رأيت ما لم أتوقعه، لو كان بيدي، لضحيت بحياتي على ألا أرى هذا المنظر.
انطفأ ضوء الكون، خُطفت ألوان عالمي الزاهية، ملأ السواد عيناي، لم أعد قادرًا على فعل شيء. جثته الغارقة في دمائه، كأنها بركة ارتوت منها الأرض. نظرت إلى رسغه الدامي... شريان دنياي قُطعت حيواته.
احتضنت جثته الدامية، قربت وجهه مني، أرى عيناه اللاتي كساهما بريقًا يلومني على تركي له. أراد أن يودعني فأبيت. أغمضت لؤلؤتيه وصرخت بصوت متصدع"لماذا...لماذا هذا؟لماذا تركتني وحدي؟"
جمعت ما تبقى لي من قوة وطلبت النجدة، كل دمعة تسقط تحرق وجنتيّ وتشعلها ندمًا وألمًا. عدت لجثته، لم تخيفني دماؤه ولم توقفني عن احتضانه، اكتنفته كما لم أكتنفه من قبل. شعرت بمدى ضآلتي بدونه، كل جسدي يرتجف، كأن غيابه أخذ نصف وجودي وزادني هِرمًا وكِبرًا، أصبحت كعجوز فقد عكازه الذي كان يعده عضوًا من أعضائه.
جاء جمع من رجال الشرطة وبعض المحققين،أخرجوني
من مسرح الحادثة، ولتوي انتبهت لملابسي الملطخة بدمائه. لا زلت أشعر برجفة جسدي ودوار برأسي، وكلما أغمضت عيناي لأخفف آلامي، يعانق بصري طيفه، طيف ابتسامته، طيف ألوانه البهية.
أسندت ظهري على الحائط المقابل لشقته، وكنت أردد في قلبي: "تلك الشقة لطالما رميت بهمومي عليها، لم أظن أنها كانت تجمعهم لتخلق بهم إعصارًا يكسر كل جذع فيّ، ويجعل مني غصنًا يابسًا".بعدما أنهوا عملهم من تصوير الجثة ومسرح الحادث، رأيت ثلاثة منهم، يحملون جثته المغطاة برداء أبيض. رجوتهم أن أحتضنه لأخر مرة، سمحت لأمطار مدامعي بتبليل غطائه، اعتذرت مرارًا، لكنها المرة الأولى التي أصدق فيها تلك المقولة التي تقتضي بأن "الاعتذار لن يصلح شيئًا ولن يرجعه لأصله".
قاطعني عن وداعه المحقق ذو المعطف البني الطويل، والملامح الحادة،والهيئة الضخمة، ناهيًك عن صوته الخشن: "لتأتي معنا".
وبدون معرفتي لأي وجهة محددة سيأخذونني، ذهبت معهم، ولم أتخيل شيئًا سيئًا، لأن ما هو أسوأ قد حدث. ما كنت أخافه... قد حصل بالفعل. لقد تخلص من حياته ثم ذهب وتركـني بلا وداع، وكل ما تركه ذكرياته بعـبيرها العطـر.
ظننتنا سنصبح شجرتين مسنتين، نتشارك جذورنا تحت التراب، ونسمو بأعلينا للسماء. نحارب الخريف معًا، ونزهو مع الربيع. نشتكي قسوة الشتاء، ونتنعم بدفء شمسه. نتأفف من حر الصيف، وننتعش بلطف نسائم فجره.
ركبت سيارة الشرطة رفقة المحقق والشرطيين بالأمام، وخلف سيارتنا، السيارة التي تحمل تلك الجثة الهامدة. لازلت لا أعلم أين وجهتي ولم تكن لدي القدرة لأسألهم أكثر، أسندت رأسي على زجاج نافذة السيارة أراقب كل حركة وسكون، كل شيء يمر خلفي يلتهمه الماضي ويصبح نسيًا منسيًا، ثم أرجعت ببصيرتي لنفسي أتحرى ما بي من ألم، وأحاول استيعاب ما مررت به للتو، وما سأمر به، لوهلة خطفت ذاكرتي ذكرى قبل أشهر حيث اشترينا أساور الصداقة خاصتنا، حينها تعاهدنا على البقاء سويًا ووعدني أنه سيحارب مرضه لآخر لحظة، كان ذلك قبل أشهر عندما اكتشفنا أنه مصاب بالسرطان.
أفتر ثغري عن ابتسامة حينما هب نسيم ذكراه العبق ذاكرتي. رسمت لحظات شقاوته في الأفق حيث أحدق، كان عندما يطلب الخروج للعب أو لشراء شيء، أرفض بشدة لكثرة كسلي، لكنه كان يستغل مرضه لقبول طلبه "ستندم عندما ينال السرطان مني" كان يغضبني كلامه ويخيفني كثيرًا، لكن ما باليد حيلة غير قبول طلباته، لقد أشفقْت على نفسي الغاضبة الآن، لقد كرهت السرطان طوال هذه المدة ،لكنه على الأقل لم يأخذه مني كما فعل هو بنفسه!

أنت تقرأ
كُومُولوس
Contoماذا لو لطختُ دُنياك بزهوي وطهرت سوادها ؟ ماذالو اعطيتك ربيعي وأخذت كآبة خريفك؟ ماذا لو قطفت ورود تأخذها وآخذ أشواكها؟ هل كنت لتبقى؟هل كُنت لتضُم يداي؟