قالمة - الجزائر 1945م
كله بسببهم !
بسببهم ها أنا أرى عبرات امي تتسابق على من تصل الارض أولا، وكذا الامر مع حبات العرق البارد التي تنساب على جبين أبي وهو يحاول جاهدا حبس الصرخات الهاربة من ثغر اخي الرضيع، لكن أنى له أن يهدأ وكل ما حوله صراخ وعويل ؟دفعتني امي نحو حفرة أشبه بالقبو في منزلنا بعد أن ناولتني اخي إيدير ولفت كلانا بقماش ربطته بإحكام، تتأكد أننا لن نفترق أو يضيع احدنا الآخر.
احاطتني الظلمة وإدريس بعد أن اغلقت أمي الحفرة بخشبة اشبه بالباب، به فتحات كانت تدخل بعض الضوء علينا، لكن حتى هي اندثرت في الظلام حين غطتها امي بالسجادة الصوفية البالية.
ضربت الباب بيداي أصرخ بكل سؤال صدع في رأسي عما سيحدث لهما ولما لم يبقيا معنا، لم ألق منهما جوابا، ولم أسمع إلا الصرخات التي تحولت من صرخات فرح وانتفاضة، إلى صرخات خوف وارتعاب. من زغاريد احتفال، إلى دموع آلام.
ثوان معدودات وتلاشى صوت عويل الناس، كلا...بل استبدل بعويل السلاح، صوت الرصاص والقنابل كان كفيلا بجعلي أحس بالمنظر في قلبي بدل عقلي دون أن اراه، أمطرت السماء رصاصا، فتطايرت الدماء وتناثرت الجثث... لم يكن منظرا غريبا على أهل البلد، منذ أكثر من قرن وأرض الجزائر تسقى بدماء ابنائها، يسقطون شهيدا بعد شهيد فداء لها.
واليوم حين ظنوا أن العدو قد تاب وفك الحصار، وأنه يوم الإستقلال الذي طال له الإنتظار، حدث أن أخطأت فرنسا بين الأول من أبريل والثامن من مايو.
فنظرا لتزامن الأحداث مع اشتباكات فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وعدت الجزائر بمنحها الاستقلال مقابل أن ينضم شبابها لصفوف القتال الفرنسية فتضرب بذلك عصفورين بحجر واحد، زيادة في عدد جنودها وتقليص لعدد شبان الجزائر، ضامنة بذلك أن لا يزعزعوا حكمها لاحقا.
لكن وكما كانت تفعل فرنسا منذ أن وطأت أقدامها هذه الأرض... اخلفت بوعدها.
لذا اليوم، 8 ماي 1945، وتوازيا مع فوز دول الحلفاء ومن ضمنهم فرنسا في الحرب العالمية الثانية، خرج الجزائريون في مظاهرات سلمية ومصرح بها يحتفلون باستقلالهم الموعود، ولكرم فرنسا البالغ، هنأتهم بالرصاص!
رصاصٌ لازلت اسمع ضجيجه يصدع خارجا، واستمر الحال لساعات، بدأ بالإنخفاض تدريجيا إلى أن عم السكون تماما، كل ما بت أسمعه دقات قلبي المتسارعة وأنفاسي المضطربة، وأحيانا شهقات خفيفة تصدر من إيدير النائم أثرا لبكاءٍ دام طويلا حتى رغم الاصوات المدوية خارجا.
حين تأكدت من سكون المكان تماما، فككت رباط أخي عني اضعه بعيدا بحوالي متر، لاحاول ضرب الباب أعلانا بكل ما اوتيت من قوة عله يفتح ونستنشق رائحة غير رائحة الرطوبة والعث في تلك الحفرة، وبعد ان سلخ جلدي وربما التوى معصمي استطعت فتحه.
رفعت أخي عن ملاذنا أولا ثم تسلقت لأصعد أنا إلى بيتنا بات الآن حطاما، حملته اسير والتفت يمنة ويسرى وكل ما اراه هو بساط احمر من دماء عشرات آلاف استشهدوا في لحظات قليلة، امهات يحتضنّ جثث ابنائهم ويبكون فوقهم، شبان ينظرون لأطرافهم المقطوعة دون حيلة، اطفال لا يفهمون الموت يرجون اهلهم ليستيقظوا.
خرجنا من الجحر مقتًا لظلامه بغية في النور خارجا لكن كل ما قابل اعيننا غمامة سوداء خلفتها ادخنة متفجراتهم، اردنا استنشاق هواء عليل عله يمسح على صدورنا لكن كل ما التقطته انوفنا هو مزيج بين رائحة الدم الشبيهة برائحة معدن صدئ رطب؛ ورائحة احتراق المواد الكيميائية .
جالت عيناي حول المكان ابحث عن ضالتي، وادعوا الله ان حايك¹ أمي وبرنوس² أبي لا يزالان أبيضي اللون ولم يلطخهما الأحمر القاني، رغم انني في قرارة نفسي أعرف ان عدونا لم ولن يرحم.
وبالفعل استغرقني الامر بضع خطوات لأجدهما جثتين هامدتين، ماتا محتضنين لبعضهما جالسين فيقابل ظهر ابي رصاص العدو اما امي فظهرها الى الجدار ، حاول حمايتها حتى اخر رمق لهما.
امسكت طرف كمي امسح الدماء الجافة عن وجوههما، ما كانت لتزال لولا ان دموعي التي تنزل دونما هوادة ، البلل على وجهي هو ما افاقني من الصدمة لأدرك حينها واقعي.
راحت من ننام على تهويداتها حين يجافينا الارق؛ من نستنشق عطر حضنها حين ييخنقنا نَفَس الفراغ، من نجد السلوى في همسها حين تخذلنا الايام، راح من نحتمي بين كتفيه حين يمسنا الأذى، من ننتظر كل مساء عودته حين يغيب نهارًا، من نشكوا كوابيسنا اليه حين تخترق الوحوش احلامنا. راح كلاهما في آن واحد، بدم واحد، وبيد عدو واحد.
حضنت ايدير الى صدري بشدة احاول مواساته... بل كنت اواسي نفسي لحظتها، احاول اقناع نفسي أن ذرف الدموع لن يكلينا، وأن علي التماسك من اجل كلينا.
نظرة اخيرة لجثتيهما، لمسة اخيرة، وحضن اخير، رفعت بصري اجول به حولي ارى الارض التي ما كادت تجف من دماء شهداءِ قرن من الزمان؛ وهاقد ابتلت بدماء اخرين.
الوطن الذي ولدت وترعرعت على اراضيه، الوطن الذي ورثت حبه أبا عن جد. وطني الآن يئن تحت وطأة الموت. تملكتني رغبة عارمة في أن اصرخ حتى تنقطع انفاسي اشكو للسماء ما عاشته بلادي النازفة.
لكني كتمت الصرخة وبلعت غصتي في حلقي، أحسست بالألم يسري في عروقي، ليس فقط بسبب فراق أحبتي، بل بسبب تلك الخيانة التي جرحت كل الجزائريين، خيانة وعدٍ كاذب أطفأ فينا شعلة الأمل ليوقدوا بدلها شعلة حقد وعزم على أن الحقوق ستعود لأصحابها كاملة مكملة.
يدفعوننا لرفع اسلحتنا...ونحن لها،
وإن كان الثمن ارواحنا... بلادي. فداها.
أنت تقرأ
إبتسم أيها القمر | Smile My Moon
Historical Fictionفي قلب الجزائر الثائرة، وتحت سماء تعانقها النجوم وتحرسها الجبال، تروى حكاية قمر الحرب... في زمن كانت فيه الأرض تغلي بلهيب الثورة، تأخذ تازيري بيد القدر، تسير بين حقول الألغام وأصوات المدافع، تحمل في قلبها روح الحرية وإرث الأجداد... في ثورة أكثر من...