عزيزي يا صاحب الظل الطويل

1 1 0
                                    

الرسالة الخامسة والستون
18 أوت 2024
عزيزي يا صاحب الظل الطويل
كيف حالك؟
عساك على خير ما يرام يا رجلي العظيم!!
وإن كنت تسأل عن حالي، فأنا والحمد لله أشعر أنني أفضل بكثير من قبل.
اليوم هو يوم عطلتي الأسبوعية، ولأنني وحيدة في المنزل الآن وأحظى بكثير من الهدوء، قررت أن أكتب لك وأستغل هذه السويعات في حديث عذب مع حبيب قلبي الذي غبت عنه كثيرا نوعا ما.
إنه يوم الأحد، هل لاحظت أن عطلتي الأسبوعية عادت إلى سابق عهدها؟
منذ فترة طويلة وأنا أرتاح من العمل أيام الإثنين، ولم يكن هذا خياري على كل حال، لقد اضطررت إلى قبوله يوما لراحتي لعدة أسباب كانت تخص زملائي في العمل... كما تعلم علينا أن نتنازل عن رغباتنا أحيانا لكي تسير الأمور بشكل جيد.
لكنني عدت مجددا إلى اليوم الذي اخترته سابقا لأن الظروف والأسباب التي سرقت يومي مني قد تغيرت الآن.
آمل أنك تنتبه إلى هذه التفاصيل الصغيرة التي تخصني يا صاحب الظل الطويل!!
اعلم يا عزيزي أنني حاولت كتابة رسالة لك يوم الجمعة، لأنني أكون وحدي في المكتبة أثناء الصلاة، وقد كنت حينها متخفية خلف بابها الموصد، وعتمتها التي تبتلعني وتغوص بي إلى أعماق السكون. لكنني في تلك اللحظة التي قررت فيها أن أبدأ في كتابة الرسالة، لمحت من الباب الخلفي ضيفا عزيزا يدق على الزجاج دقات ناعمة بأنامل من حرير، فتركت خلفي كل حروفي وفتحت الباب على مصراعيه لأحتضن المطر!!
لقد نجح المطر في سرقة لحظاتك الخاصة يا صاحب الظل الطويل، لقد اختطفتني منك تلك الأمطار الصيفية العجولة التي تحل علينا في عز الحر ضيفا خفيفا ينثر بركاته على الأرض، ثم سرعان ما يختفي ولا يترك خلفه إلا عطره العالق في التراب... لكن أمطار آب حين غادرت أخذت معها رسالتي إليك، ولم تترك لي منها فكرة ولا حرف، فتلاشت حينها كل كلماتي وأصبحت عدم، ولهذا السبب تأخرت في كتابة رسالتك.
لقد حدثتك في الرسالتين السابقتين عن وضعي الغير مستقر نوعا ما، وأخبرتك أنني أشعر بحزن عميق وانطفاء غريب بسبب بعض الظروف الغير مريحة التي كنت أتوسط متاهتها، لكنني مازلت أتذكر أنني وعدتك أن أحدثك عن يوم مميز قضيته رفقة أختي، فكان لي أشبه بلحظات مسروقة من الزمن حلقت بي بعيدا عن دوامة ذلك الإغتراب النفسي الذي كنت أعاني منه، ومنحتني شعورا مريحا رغم كل شيء.
عد معي الآن يا عزيزي إلى الثامن من آب... في ذلك اليوم الذي كانت فيه فتاتك في حالة لا علم لك بها، وأعتقد أنك لن تتمكن من معرفة تفاصيلها يوما ما لأنك لم تأتِ إليَّ بعد، ولم تمنحني فرصة إخبارك بكل شيء بينما أجلس بين يديك، وأحدق في عينيك، وأقص عليك كل ما في جعبة قلبي من حكايات. لكنني وإن غبتَ عني الآن فإنني بفضل من الله محاطة دائما بأشخاص يقدسون روحي، ويهتمون بترميم قلبي، ويبرعون في إسعادي بكل الطرق التي يجدون إليها سبيلا، وإن هذا لمن أعظم عطايا الله ونعمه عليَّ لو تعلم.
لقد كنت في ذلك اليوم منهكة جدا وباردة للغاية، لا شيء يثير انتباهي، ولا شيء يستميل رغبتي لفعل أي شيء إطلاقا مهما كان بسيطا، كما أنني أمضيت يوما مرهقا وضاغطا في المكتبة، وكنت قبل أن تنقلب موازين يومي أحمل حقيبتي بفتور وأدفع خطواتي لتحملني إلى المنزل بثقل، لأتفاجأ بأختي تقف أمام باب المكتبة لاهثة تحاول استرداد أنفاسها الفارة منها، لأنها على ما يبدو جاءتني راكضة!!
كانت حينها تقول لي بكلمات متقطعة: أخيرا وصلت، لحسن الحظ أنني وجدتك هنا، من الجيد أنك لم تغادري المكتبة بعد.
ألقيت نظرة خاطفة على ساعة هاتفي فوجدت أن دوامي قد انتهى قبل نصف ساعة، ولم أفهم لماذا بقيت في المكتبة نصف ساعة إضافية، دون أن يكون هناك أي سبب يدعو إلى ذلك!!
هل كانت هذه مجرد صدفة، أم أن الله أراد لي هذا كي أتحسن؟
التفتُّ إلى أختي وقلت لها: لماذا لم تتصلي بي لأعلم أنك في الطريق إلي، كنت سأنتظر إلى حين قدومك دون أن تضطري إلى الركض بهذا الشكل، هل أنت بخير؟!
اعتدلت واستقامت ثم قالت لي: أردت أن أفاجئك!!
ثم وجدتها تمد يدها وتقدم لي وردة زهرية جميلة مزينة بالجيبسوفيلا البيضاء التي تضيف سحرها دائما على الورود، فترد لها لمعان الحياة وكأنها مازالت معلقة في غصنها الغض على أكتاف شجرتها الأم.
لقد التقطت أصابعي تلك الوردة الجميلة بحب، ثم رفعتها إلى أنفي تلقائيا لأستنشق عطرها الذي بعث في داخلي نشوة عجيبة سرت في جسدي كله وغمرتني بهجة وسرورا، بعدها أخذت أختي في حضني وضممتها شاكرة لها التفاتتها الطيبة هذه. لكنها قالت لي أن المفاجأة لم تنتهِ بعد، ثم سحبتني من يدي وطلبت مني أن أختار مكان أجده مريحا لتدعوني فيه إلى تناول شيء حلو.
هي تعلم أنني أفضل الأطباق المالحة، لكنها تعلم أيضا أنني في تلك الحالة بالضبط بحاجة إلى بعض التغيير. فكان أن جلسنا في (كافيه) هادئ في المركز التجاري، واستمتعنا بفضفضة أخوية بينما كنا نتناول البان كيك الغارق في الشوكولاطة، وشيئا من المشروبات المثلجة.
بعدها أخبرتني أن أستعد لخوض مغامرة استثنائية في حديقة التسلية، فذهبنا وتمشينا طويلا هناك قبل أن نتوقف عن المسير أمام لعبة كانت رؤيتها كفيلة بإعادتنا إلى ذكريات طفولتنا، حين كان أبي يصطحبنا إلى هناك ويأخذنا إلى هذه اللعبة تحديدا، لأننا كنا نحب الأراجيح منذ كنا صغيرتين، ومازال هذا الحب فينا إلى الآن. فاشترينا التذاكر وركضنا لنحصل على فسحة اللعب قليلا، ونرتاح من عبء أن نكون راشدتين، رغم أننا نعلم أن اللعبة مخصصة للأطفال، وأن وجودنا وسط الصغار المحيطين بنا أمر قد يبدو للبعض محرجا للغاية، لكننا لم نأبه بكل هذا، ولم نرَ من تلك الصورة سوى متعتنا ولا شيء سواها!!
لا تقل يا حبيبي أنني أبالغ حين أخبرك أنني كنت أسعد إنسانة على وجه الأرض حين كانت الأرجوحة تدور بنا في الهواء... لقد شعرت بخفة عجيبة، وتمنيت لو تحملني هذه الأرجوحة السحرية إلى الأبد. لكن لحظات اللعب كانت كغيرها من اللحظات الجميلة التي سرعان ما تمضي ولا تترك فينا إلا أثرا خفيفا كأثر فراشة... أثر لا يُرى لكنه لا يزول!!
وبعد أن كنت في الأرجوحة طفلة، أخذت أختي تعزز في داخلي الرغبة في المغامرة، وتشجعني على تفريغ كل مكبوتاتي في مكان أضع فيه نفسي اختيارا في موقف خطير ومخيف لأصرخ... فقط لأصرخ وأريح نفسي من حملها الثقيل. فاصطحبتني إلى مبنى السينما 9D، واخترت أن أعيش معها موقفا خياليا أكون فيه داخل عالم غريب ومرعب، لأجد نفسي فيه فجأة أمام تنين ثائر، أو عنكبوت ضخم جائع... وغيرها من الكائنات الفانتازية التي لا نلتقي بها في واقعنا أبدا!!
لقد صرخت حتى ذبلت حنجرتي!!
صرخت منذ بدأت رحلتي في ذلك العالم العجيب الذي وقعت فيه وهما، ولم أتوقف عن ذلك إلا في تلك اللحظة الآسرة التي اختُتِمت بها مغامرتي في هذا المكان المخيف... لقد وجدت نفسي فجأة داخل ضباب كثيف أخذ ينقشع شيئا فشيئا، حتى استطعت في النهاية أن أرى في الأفق طائرة مروحية تحلق في السماء وترسل لي سلم نجاة!!
أتدري... لقد شعرت في تلك اللحظة برجفة هزت جسدي، وامتلأت بعدها عينيَّ بالدموع لشدة تأثري بذلك المشهد الختامي الذي أحسست فيه أن كل شيء مهما كان صعبا سيمضي.
لقد نجحتُ في التقاط تلك الإشارة القادمة إليَّ من السماء، واستعدتُ شيئا من قوتي ورغبتي في المضي قدما، واستشعرتُ في أعماق نفسي معيَّة الله، وجددتُ إيماني بأن الله معنا دائما، حتى حين نركز بصرنا على الظلام الذي يبتلعنا، وتعمى بصائرنا على التقاط نوره الذي يستطيع أن يمحي كل السواد الذي يداهمنا من كل صوب.
ألا ترى كيف يمكن لشيء صغير عابر بين أنفاسنا أن يلفت انتباهنا إلى أشياء أعظم وأعمق بكثير مما نتصور؟!
لذلك أريد أن أطلب منك يا صاحب الظل الطويل ألَّا تصرف نظرك عن الأشياء الصغيرة التي تتطفل على أيامك، وامنحها شيئا من وقتك لتعلمك درسا قد تكون في أمس الحاجة إليه، وقد لا تتعلمه أبدا لو أهدرت تلك الفرصة... لا تهمل التفاصيل الصغيرة يا عزيزي فإن فيها ينطوي العالم الأكبر!!
دعني أختم رسالتي الطويلة هذه بتبليغك سلاما خاصا من أخيل ولوز.
لقد زرتهما في نهاية يومي الحافل هذا، وأخبرتهما أنني قبل سويعات فقط لم أكن بخير، لكن يدا خفية نسجت لي في الغيب أحداثا ضمدت جراح قلبي، وجبرت كسور نفسي، ونفخت فيَّ من جديد روحا خضراء بوسعها أن تقدم للجميع كؤوسا ممتلئة بالعطاء والحب.
ملاحظة 1:
أ حبيب قلبي، أريد أن أخبرك أن آب هو شهري، آب هو الشهر الذي جئت فيه إلى الدنيا، أتُراك تعلم شيئا عن هذا؟!
أتساءل إن كنت تعرف متى وُلدت؟!
لقد اقترب يوم ميلادي كثيرا، وأحيطك علما أنني تلقيت بالأمس أول هدية من صديقتي أميمة التي اختارت أن تسبق الرزنامة وتضع لمستها مبكرا في أيام شهري، لتكون بذلك أول من احتفل بي!!
أيها الأحمق... ألا ترى أنه يجدر بك أن تكون الأول في هذا!!
ملاحظة 2:
هااااي... لن أحدد لك اليوم الذي وُلدت فيه بالضبط، بل سأترك لك الأمر لتكتشف يومي وحدك وتتذكره، ولتفكر في هدية من أجلي أيضا لو تكرمت!!
ملاحظة 3:
أيعقل أن تكون هديتي منك هذا العام هي أنت؟!
هل تفكر في مفاجأتي بظهورك في يوم ميلادي بالضبط؟!
لَعمري أنها ستكون أعظم هدية على الإطلاق لو فعلت!!

🎉 لقد انتهيت من قراءة عزيزي يا صاحب الظل الطويل 65 🎉
عزيزي يا صاحب الظل الطويل 65حيث تعيش القصص. اكتشف الآن