...حامل المبخرة..
صباح شديد البرودة، مطر فجأة لا يريد التوقف، ألمح بعيني المارة وهم يندفعون ليحتموا بأقرب بروز ظاهر أو أسفل عمارة، الكوبري الأزرق الذي يمر فوق محطة قطار الإسماعيلية أمامي؛ لأحتمي به، كثيرون مثلي أخذوا هذا القرار بالاحتماء بالكوبري .
رأيته وقتها، شاب فارع الطول، لا تبدو ملامحه جيدًّا فقد غطاها سخام أسود، ملابسه ممزقة ورثة، يحمل مبخرة في يده بسلسلة فضية لامعه، يتصاعد من المبخرة دخان كثيف طيب الرائحة، أتشممه وهو يعطر الجو من حولي، أتعجب برغم كثافة الأمطار فهو يقف تحتها، ودخان المبخرة لا يتوقف في ظاهرة غير مفهومة .
الشحاذون يحتمون مثلنا بالكوبري، لا يمدون يدهم الآن للمحتشدين بالأسفل، بل ينتظرون توقف المطر حتى يعودون لأماكنهم فوق الكوبري وبجواره، سؤال ضرب عقلي لماذا يكثر الشحاذون هذه الأيام ، أطفال الشوارع بالمثل يقفون بجوارنا، طفل منهم قرر أن عليه أن يتبول الآن، فلم يتردد وخلع بنطلونه، وراح يتبول وسط نظرات الناس وتأففهم.
حامل المبخرة ما زالت عيناي مسلطتان عليه وهو يواصل رقصه تحت المطر ، ويبخر الهواء لتنتشر الرائحة أكثر وأكثر، أجده يقترب من الشحاذين يمد يده في جيبه الخلفي ويخرج نقودًا، يقوم بتوزيعها على الشحاذين، يده لا تتوقف فهي تروح وتجيء بين جيبه وأيد الشحاذين، أظن أن بعض الواقفين تطلعوا له بدهشة ومدوا أيديهم بالمثل.
حاولت أن أفهم من أين تأتي هذه النقود ! انتهت الأمطار مثلما بدأت فجأة ، بدأ الناس يخرجون للشارع ، صعدت الكوبري خلف حامل المبخرة ، دهشتي تتعاظم فكلما قابل شحاذ مد يده بالنقود إليه.
نزلت الكوبري خلفه ، كان أمامي ، يسير في عكس اتجاه عملي ، لم أتردد للحظة وأنا أتبعه.
شوارع كثيرة مشيتها خلفه، رأيته يخرج المزيد والمزيد من النقود لأي شحاذ يقابله أو سيدة تمد يدها سائلة الناس.
دعوات كثيرة تصل إلي أذني من شفاه من يعطيهم.
أظنه أنتبه أنني أتبعه منذ ساعات تقريبًا، جلس بجوار ترعة الإسماعيلية في شارع محمد علي، جلس على الأرض، وقفت ناظرًا له، فأشار لي أن أجلس، جلست، مد يده في حقيبة قماش يحملها وأخرج قطعة خبز ناشف ومدها لي، أخذتها من يده التي غطاها السواد بهدوء غريب، وأكلتها، هل مال بجسده للترعة ومد يده فغرف منها شربة ماء وأشار لي أن أشرب من يده. أظنه فعلها.فشربت. ارتويت، لم أنطق بكلمة، ولم ينطق هو بكلمة، وكأن هذا كل ما كان ينقصنا.
توقف عن الأكل بغتة ، وفرك قطعة من الخبر ورماها في الترعة، لا أعرف من أين أتت كل هذه الأسماك التي راحت تتقافز أمام عيني في الماء وهي تأكل فتات الخبز، الذي يواصل رميه لها .
قام واقفا فتبعته بلا تردد، راح يسير في الشوارع وأنا خلفه لا أعرف لأين تأخذني قدماه اللتان ربما تحولتا فجأة لقدمي، فأصبحنا نسير متجاورين وكأننا في عرض عسكري. حارات، وشوارع وبيوت. ولا نتوقف لوهلة.
الشحاذون يظهرون وقتما يريد أن يمنحهم عطاياه، نقوده التي لا تنفد قطّ ، والتي لا أعلم مصدرها.مبخرته أيضا لا يتوقف دخانها، لم أره يزيدها فحما أو بخورًا، لكن دخانها يواصل تعطير الجو. أدمنت رائحة بخواره، ورائحته هو، طفت معه كثيرًا، وكثيرًا .
لم يغب عن عينيّ سوى لحظات النوم ، لا أعرف هل ينام هو أم لا .
لا علم لي بالوقت، ولا بالأيام، لم أسال قط ّعن عملي هل فصلت ؟ مؤكد ، أيام غيابي تتواصل حيث أصبحتْ بلا عدد، لم انتبه لملابسي ولا شعري الذي راح يطول ويتشابك، ولا لذقني التي طالت وتشابكت بالمثل، فأقترب شكلي من المجاذيب. كله يهون من أجل سيدي .
بل هو سيدي مؤكد هذا، فلِمَ اتبعه كل هذه الأيام ؟
ظهرتْ تلك القبة الزرقاء أمامنا ، أشير لي إلى ميضأة كي أتوضأ ، فذهبت. غاب عن عيني لدقائق ، دخلت المقام خلفه، لم أجد أحدًا، قبة خضراء صغيرة مغطاة بوشاح أخضر، ومعلق بها نذور كثيرة ، لا إمام للمقام ، ولا مؤذن جامع، لا شيء ، واختفى سيدي ، زعقتُ بصوت عال مناديًا ، انتبهت أنني برغم كل هذه الأيام لا أعرف اسم سيدي .
راح صوتي يتردد في المكان وصده بالمثل، لا مجيب .
أفتش الأركان لعلي أجد ما يشير علي بمكانه، أخرج من المقام أدور حوله، لا أثر له، وكأنه تبخر في الهواء، رائحته لم تعد حولي، انظر للفضاء الممتد أمامي، كيف وصلت خلفه لهذه النقطة، وهذا المقام الذي ليس حوله بشر. أسير يمينًا لأيام وأعود لأسير يسارًا لأيام ، أنطلق للأمام لأيام ، وأعود للخلف لأيام .
اختفى سيدي. وقتها لمحتها مبخرة قديمة ملقاة خلف المقام ، حملتها في يدي، بها بقايا بخور تحتاج من يشعلها، أشعلتها ورحت أتشمم الرائحة لعلها تجمعني به، هل ظللت بجوار المقام لأسبوع أو أكثر، امرأة عجوز مرت وضعت كيسًا من البلح في حجري ، وأشارت لي أن أمضي .
وكأنها أعطتني الإشارة فانطلقت .
لا أعرف كم يوما أسير حتى عدت لأول الطريق حيث الكوبري الأزرق ، لمحتهم جالسين، هم نفسهم الشحاذون، اقتربت منهم أسألهم عن صاحبي، أنكروا رؤيته وأنكروا عطاياه ، والبعض همس مجنون ، آخرون منهم تساءلوا عن بركاته التي رحت أسردها عليهم هل هي حقيقة؟!
البعض قال أنتَ نسخة منه، ألم تكن أنتَ؟
مددت يدي في جيبي، أخرجت نقودًا أعطيتها لهم، ومضيت وسط دعواتهم لي وأنا أتساءل من أين أتت النقود؟
وسؤالهم يتردد في عقلي بلا توقف .
ألم تكن أنتَ؟