نشرة أخبار السادسة:
وصل عدد المصابين بهذا الوباء اللعين إلى مئة ألف حالة، الطرقات تمتلئ بالجثث النافقة، جميع المحارق تم ملئها كذلك المقابر، إلى الآن يعمل العلماء على إيجاد دواء لهذا اللعين، على الجميع الحرص وارتداء حُلات السلامة عند الخروج من المنزل.
هذا وسوف نوافيكم بكل جديد.
أغلقت التلفاز بعد سماع هذه الأخبار السيئة فقد كشرت الطبيعة عن أنيابها وردت الصاع صاعين لمن حرقوا غاباتها، لوثوا هواءها ليزيد ثقب الأوزون، الهواء أصبح مسموم حتى الحُلات المخصصة لا تحميهم لوقت طويل؛ حيث أن كثرة تعرضها لهذا الهواء يجعل السموم تخترق مسامها لتحرق جلودهم ويصابوا بالتسمم والقرح التي تودي بحياتهم.
ظلت مريم تبحث داخل المجلات العلمية ووسائل التواصل عن كل ما هو جديد ويخص هذا الوباء، فقد خسرت والدتها أمام عينيها، لا زالت تنتفض خوفاً كلما تذكرت وجهها وهي تحتضر والجلد يذوب منه كالشمع... والكثير من أصدقاءها فقدتهم بسببه.
أخرجها من بحثها وتفكيرها صوت والدها:
- يجب علينا مغادرة هذه المدينة حالًا فلم يعد هناك وقت، ساعات قليلة وسوف تعلن الحكومة الحظر الكامل وبعدها سوف يحرقون المدينة اعتقاداً منهم أن هذا سوف يحل الموقف إلا أنه سوف يزيد البلاء.
كانت تستمع له وهي جاحظة العينين، تفرك يديها بعضها البعض من فرط التوتر، جبينها يتصبب عرقاً كأنها تسكن الشمس، حاولت أن تتحدث بصوت جاهدت لإخراجه:
- لكن إلى أين يا أبي فكما تقول الوباء منتشر ولا سبيل للفرار منه؟
- لا أعلم، لكن سبيلنا الوحيد هو الفرار حتى يظهر أمل جديد، أثناء عملي سمعت بوجود محمية منعزلة سوف نذهب إلى هناك لعل معلوماتي تكون صحيحة وتكون النجاة.
لم تجد ما تقوله لوالدها فهي تعلم أن الموت قريب، حاولت الثبات وإظهار الشجاعة لتشد من أزره فهو الوحيد المتبقي لديها، ارتدت حُلتها المخصصة وخرجت معه لكن بسبب التوتر لم تحكم إغلاقها، تعثرت وهي تسرع الخطى لتسقط خوذتها صرخ والدها بصوت يملأه الخوف:
- احمي وجهك.
إلا أن الخوذة كانت بعيدة عن يدها
هرول مسرعًا لالتقاطها، ارتدتها مريم مرة أخرى ثم استقلا الطائرة بعدما أخبر والدها الطيار بإحداثيات الموقع الذي سوف ينتقلون إليه. تساقطت دموعها عندما شاهدت الجثث تملؤ الشوارع، رائحة الموت بكل شبر، الأجساد تتساقط كالطيور النافقة بعدما سقط الجلد من عليها، بعض الجثث انتفخت في مشهد مثير للغثيان.
ربت والدها على كفها وطلب منها إغلاق عينيها إلى أن تقلع الطائرة فقلبها لا يحتمل كل هذه المشاهد القاسية، حاول إخفاء مخاوفه فبعد بضعة أيام ستلاقي نفس المصير بسبب تعرضها لهذا الهواء المسمم، لن يستطيع التخلي عنها حتى وإن كان مصيره الموت بجانبها، فهي أبنته وآخر من تبقى لديه، علا صوت قلبه المكلوم أكثر وأكثر فالقادم مجهول والحاضر يملأه الموت، أغمض عينيه لإبعاد هذه الأفكار عن رأسه.
حلقت الطائرة لمدة ساعتين لتهبط بمكان تملؤه الأشجار، أرضه خضراء، يمر بجانبه نهر عذب يروي هذه الجنة. عندما هبطت بقدمها وشاهدت كل هذا الجمال رفعت خوذتها لتجد نسمة من الهواء العليل تلفح وجهها، نظرت لوالدها وعلامات الدهشة تتجلى على ملامحها، لكن ملامحه كانت تحمل دهشة أكبر عندما رأى وجهها صافي ولم يتأثر بالهواء المسموم، التزم الصمت وهو يدعو الله أن يحمي طفلته.
نصب الخيام التي أحضرها معه للإقامة بهذا المكان.
حل الليل بعباءته السوداء لتظهر صفحة السماء بصورة بديعة تملأها النجوم، أشعل والدها النار لبث الدفء في أجسادهم وإنارة المكان.
في صباح اليوم التالي سمع والدها بعض الجلبة أثناء جمع الحطب اليابس، اقترب خلسة من مصدر الصوت ليكتشف وجود خيمة كبيرة تحمل اسم منظمة الأمم المتحدة، عاد لخيمته مرة أخرى وهو يفكر ترى ماذا يحدث بهذه الخيمة الكبيرة؟!
استيقظت مريم وبداخلها بعض الراحة فاليوم هو الأول منذ عدة أشهر تنعم بهذا المنظر الطبيعي الخالي من رائحة الموت والجثث، ابتسمت في وجه والدها الذي بادلها نفس الابتسامة، استأذنت مريم والدها التجول بجوار الخيمة وإحضار بعض الفاكهة من الأشجار الموجودة بالجوار، أثناء تجولها تعثرت بحجر سقطت على أثره أرضاً لتصطدم رأسها بحجر ضخم كان أمامها تسبب في جرح يدها وقدمها، خرجت منها صرخة ألم سمعها والدها، فهرول مسرعًا لنجدتها ليجد مفاجأة في انتظاره!!!
طفلته فاقدة الوعي ويسيل منها دم لونه أزرق!
حملها مسرعاً وتوجه نحو الخيمة التي اكتشفها صباحاً:
- النجدة طفلتي تحتضر
أسرع تجاهها طبيب في منتصف الأربعينات يرتدي نظارات طبية، ملامحه حادة بعض الشيء ليسأله:
- ماذا حدث؟ كيف عرفت هذا المكان؟
أخبر والدها الطبيب بكل ما حدث سابقاً وكيف عرف بأمر هذا المكان وأن فتاته تعرضت للإصابة و جروح اليوم أثر حادث بالغابة.
كان دكتور جورج يستمع له بإنصات تام، لذا طلب من والد مريم إخضاعها لبعض الفحوصات للتأكد من سلامتها.
وافق والدها فسلامة طفلته شغله الشاغل، دلفا معاً إلى داخل الخيمة ليفاجئ والدها بوجود عدد كبير من المعدات الطبية، حاويات كبيرة لحفظ الماء، ثلاجات بها فواكه وطعام يكفي للعديد من الأشخاص
كان يتابع كل هذا بصمت واندهاش، كيف استطاع هذا الطبيب تدبر كل هذه الكميات من الطعام والمعدات؟!
هل هذه الأطعمة خالية من الوباء أم مسممة؟
بالجانب الأيمن من هذه الخيمة الكبيرة توجد ست حجرات يفصلها عن بعضها البعض حائط من القماش المقوى، حجرتين تحمل لوحات كتب عليها خاص بفريق العمل، الحجرات الأربعة المتبقية تم ترقيمها من العدد ١ إلى العدد ٤
صوت الطبيب أخرجه من مراقبته للمكان:
= هل أنت متأكد أن ابنتك أصيبت بجروح؟ فأنا لا أرى أي جروح كما ادعيت.
- كيف هذا لقد رأيت الجروح بأم عيني، لقد كانت هنا بقدمها اليمنى!
صمت دكتور جورج لبعض الوقت، ثم طلب منه المكوث معهم لبضعة أيام لمتابعة حالة مريم، أرشدهم إلى غرفة سوف تكون خاصة بهم.
شكره والدها وتوجه نحو الغرفة ومعه مريم إلا أنه توقف فجأة ليسأل دكتور جورج عن طبيعة هذا المكان
= نحن نقيم هنا محمية نجري بها بعض التجارب لمادة قمت باكتشافها إن نجحت سوف تكون الشفاء لهذا الوباء.
شكره والد مريم وتوجه نحو الغرفة المخصصة لهما، بينما قلبه وعقله يكادا ينفجران من التفكير كيف شفيت جراح ابنته؟ ما هذا اللون الغريب الذي وجده بجوارها حينما سقطت؟
أزاحت الشمس عباءة الليل السوداء لتحمل أملا جديدا للجميع، استيقظت بقلب يملأه التفاؤل بعدما راودها حلم يحمل الشفاء وإزاحة الغمة،
استقبل دكتور جورج وطاقمه مريم ووالدها بوجه بشوش، سألته مريم ما هذه التجربة وماهي المادة الجديدة فقد تابعت كافة المجلات العلمية ووسائل الأخبار ولم تسمع عنها؟
= الموضوع إلى الآن تحت الاختبار فقد توصلت بعد عدة أبحاث لمادة تستطيع أن تقضي على الوباء، أيضاً تعمل على تجديد الخلايا التي يصيبها الوباء مما يتيح الفرصة لشفاء نسبة كبيرة من المصابين بعد حقنهم بهذه المادة الذي قاموا بمزجها بفيروس هذا الوباء، اندهشت مريم ووالدها من هذه المعلومات فبرغم اطلاعهم المستمر لكن هذه معلومة جديدة.
استأذنهم دكتور جورج وغادر الغرفة ليتجه نحو غرفة المتطوعين ليبدأ التجربة، قام بحقن المتطوعين بمحقن قد أحضره له مساعده
= الآن سوف نضعكم تحت الاختبار لمتابعة تطورات ونتائج أجسادكم وتفاعلها مع المادة الفعالة مع الأجواء المختلفة كالحرارة والبرودة، تم وضع المتطوعين داخل حجرات مختلفة ومتابعة حرارة أجسادهم ومدى استجابتها للمادة الجديدة، إلا أن أجسادهم تحولت بعد عدة ساعات لتنتفخ كالبالون محدثه انفجاراً تناثرت على أثره أشلاءهم، قام بإحضار متطوعين جدد لينالوا نفس المصير كسابقيهم، أجسادهم لا تستجيب لهذه الجرعات ونهايتهم تكون الموت!
كانت مريم تتابع هذه التجارب عن كثب مع والدها، كان القلق والخوف يملأ قلب والدها حاول كثيرًا الهرب بابنته من هذا المكان الذي أصبح الموت يملأ أرجاءه إلا أن الأمن كان يملأ المكان، الهروب منه أشبه بمعجزة، كاد اليأس يتملك من دكتور جورج فكل المحاولات باءت بالفشل لم يبق سوى أمل واحد ولكن هل ستوافق صاحبته ووالدها! هذا هو السؤال الشاغل الأن؟!
طلب دكتور جورج من مساعده إخبار والد مريم أنه يريده في أمر هام.
= أعلم أن ما أقوله يعتبر أمر صادم بالنسبة لك لكن فحوصات ابنتك ظهرت ويوجد بها شيء غريب، عينة الدم الخاصة بها تحمل لون أزرق عندما قمت بتحليلها وجدت نسبة النحاس أكثر من نسبة الحديد الذي يعمل على جعل الدم يحمل اللون الأحمر. هل حدث أي شيء لمريم ولم تخبرني به!
تلجلج والدها قليلاً:
- سوف أخبرك بما أعرف عندما كانت مريم بعمر الستة أشهر فوجئت أنها تعاني من مرض فقر الدم المنجلي وأنها تحتاج لتغيير دمها كل شهر، كان الخبر صادم بالنسبة لي ولوالدتها فهذه تكلفة كبيرة وأيضاً تحمل مخاطرة كبيرة فالجسم ممكن أن يرفض الدم وبعدها نفقد ابنتنا، في أحد الأيام أثناء زيارتنا للمشفى قابلنا طبيب مختص بمرض مريم وعرضنا عليه حالتها أخبرنا أنه يملك الحل، عندها تهللت أساريري وشعرت أن الله كتب لابنتي حياة جديدة، قام الطبيب بتغيير دمها بدم لا أعرف عنه سوى أنه يخص كائن بحري وأخبرنا أنها لن تخضع لهذه العملية مرة أخرى، وقتها خيل لي أنه توصل لعلاج وأهم ما في الأمر أن ابنتي بخير حافظت على حياتها خوفاً من تعرضها لأي أذى، عندما أصيبت وجدت بجوارها دم يحمل اللون الأزرق ولكني لم أخبرك خوفاً من رفضك لمداواتها.
استمع له دكتور جورج بكل حواسه وعندما انتهى طلب منه أن تخضع مريم لتجربته فهي الأمل الوحيد، فعندما حلل عينتها أول يوم قام بالبحث كثيرا عن سبب هذا اللون فهي تعود لكائن بحري يسمى (سرطان حدوة الحصان) ومن خواصه أنه يتجدد دائما، رفض والدها وهاج وماج، قرر حمل أبنته والمغادرة فورا فهو لن يستطيع أن يضحي بها إلا أنه أكد له أنها ستصبح بخير فهو قام بالتجربة مسبقاً على عينة من دمها والنتائج مبهرة
كانت مريم تستمع لكل ما يحدث بفم مفتوح كالبلهاء، لا تصدق أنها الأمل، دلفت للغرفة بدون استئذان لتخبر والدها أنها سوف تخضع للتجربة وأن فشلت فسوف ترافق والدتها وتنعم بصحبتها، حضنها والدها بشدة ليخبرها بمدى خوفه إلا أنها حاولت طمأنته وأخبرته أنها شجاعة ومحاربة منذ الصغر فكما يقول أنها كانت تحارب من عمر الستة أشهر.
قام دكتور جورج بحقنها بمادته الجديدة، ثم قام بمتابعة حالتها عن كثب، كانت مؤشراتها الحيوية منتظمة بدأ الدم يجدد نفسه ويتفاعل مع المادة الجديدة ليفرز دم نقي بعدما حاصر الميكروب وقتله، قفز دكتور جورج لنجاح تجربته؛ فمريم هي الحل هي حواء الجديدة للبشرية دمها يستطيع شفاء المرضى من هذا الوباء، فالبلازما الخاص بها بمجرد دمجه مع دم أي مصاب يعمل على حصر الميكروب وقتله وتجديد الخلايا لتنمو من جديد كالنبات، كانت مريم الأمل لعودة الحياة من جديد واستمرار الجنس البشري ألا أن هناك عيون كانت تراقب كل ما يحدث عن قرب فهي تريد الحياة لبعض الفئات فقط جيل جديد بخلايا ودماء نقية يستطيع المحاربة، قبل نقل مريم وعينتها للمختبر المركزي قامت مجموعة ملثمة بخطفها وتصفية جميع الأفراد الموجودين بالمعسكر بما فيهم والدها لتصرخ مريم وعيونها مثبته على والدها
- أبي لا تتركني...
قامت بصفع الملثم ليشهر سلاحه في وجهها
- سوف أقتلك لفعلتك هذه
شد أجزاء سلاحه لينهي حياتها، صوت طلقة من الرصاص جعلتها تنتفض ظننا أنها فارقت الحياة ألا أن هذه الرصاصة كانت من نصيب ذلك الملثم لينظر لها قائدهم ويردف قائلا:
- أعتذر منك لقد نال جزاء خطأه.
- من أنت وما الذي تريده مني؟
ضحك وهو يجيبها أنا الطبيب الذي قمت بعلاجك منذ كنت طفلة شهور، والأن دمك ملك لي...
أنت تقرأ
الذهب الازرق
Short Storyهتعمل ايه لو عرفت أن نهاية العالم قربت والخلاص بين ايدين شخص واحد بس....