الحادية عشرة ليلًا، داخل قبوٍ واسع و معزول بديكور قوطي ساحر، جلست "صاحبة قناع الأرنب" على كرسي فخم، متكئة على وسادة من الديباج الإسبانيّ الحرّ، بينما تلوّح-بوتيرةٍ منتظمة- بمروحتها القماشية الصغيرة المستوحاة من أسلوب الروكوكو الذي تغشاهُ المنحنياتُ الناعمة و الزهورُ الرقيقةُ الفاتحة.كانت السيّدةُ تحرّك يدها برقيّ بالغ يتنافى مع شعورِها الخانقِ بالحرّ و خصلاتُ شعرها الأشقر الفاقع تتطايرُ بخفّة حولَ وجهها، لكنّ ذلكَ أيضًا لم يخفّف من رطوبةِ المناخ، تزايدَ عددُ الحاضرين في القاعةِ المغلقة و نضحت مساماتُ وجهها بالسوائلِ أسفلَ قناعِ البورسلان السميك الذي يظهرُ شفتيها فقط.
بحركة صغيرة من يدها، أشارت لنادل قريب، فهرع ليقدم لها كأسًا من الكونياك مع كثير من الثلج. رشفة واحدة أعادت إليها صفاء ذهنها، لتنظر حولها؛ جميع الكراسي المرصوصة بتقارب قد شُغرت... ما عدا الذي بجانبها، صاحب رقم 68.
فجأة، تغيّر رتم حركة الحراس،قرعت أقدامهم الأرضية باندفاع و أغلقت الأبواب معلنةً بداية المزاد رسميًّا.
عشرونَ رأسًا،بين رجالٍ و نساء، وسطَ أقنعةٍ غريبة و قبّعاتٍ ضخمة تتعمّد طمسَ الهويّات و الملامح، إجتمعوا في هذه الأمسية الفنّية للتنافسِ على أمفورا ثمينة متنازعٌ على أصولِها الحقيقية إن شئنا الدقّة،بينَ من ينسبها إلى الحضارة ِ الإغريقية،الرومانية، الهندية و حتّى الفرعونية، لكنّ مالكَها المتوفيّ قبل عامين،الملقّب بتشارلز هاريس، أحدُ أشهرِ جامعيّ التُحف في القرنِ العشرين، كان قد حسمَ الأمرَ حينَ حصلَ عليها قبل أعوامٍ خلَت و أعلنَ-بشكلٍ مثيرٍ للجدَل-أنّها أمفورا من حضارةِ المايا كانت تستخدمُ في الطقوسِ الدينية و نقل السوائل..مثبتًا بذلكَ مقولةَ أنّ التاريخَ يكتبهُ المنتصرون.
تقدّم مدير المزاد، سمينًا في بدلة كحلية، يحمل الأمفورا على وسادة حمراء مزخرفة، ثمّ وضعها أمام الجميع على منبرِ المزاد رفقة المطرقةِ التي ستحسمُ الفائز. انفجرت الهمساتُ بين الحاضرين، تلألأت أعينُ البعضِ و عدّل آخرون أجسادهم بتوتّر. أمّا صاحبةُ البطاقة رقم تسعة و ستين، فاكتفت بالتربيت على حقيبةِ المالِ السوداء الجاثمة بجانبها كهرّ أليف و عيناها لا تفارقانِ السمراءَ الفاتنة.
كانت الحاويةُ مصنوعةً من الطينِ الأحمر و مغلّفةٍ بطبقةٍ زجاجيةٍ لامعة جعلت النقوشَ و الأشكالَ المتباينة أسفلها أكثر حيويةً و نضارة. قاعدتُها مدببة سميكة و لها مقبضانِ دائريان و رقبة ضيقة ترتفعُ لأعلى بشموخ.
لم يستطِع أحدٌ الإنفلات من قبضةِ الإنبهارِ و هو يشاهدُها رغم بساطتِها، تفاصيلُ الأجسادِ البشريةِ البدائية المرسومة، الرموزُ التي يكتنفها الغموض، الألوانُ المتناسقة، كلّها كانَت وقودًا يؤججُ من رغبةِ الإنسانِ الفطرية في التملّك و السيطرة على كلّ ما يستفزّ عقلهُ و يستثيرُ فضوله