عازف الحافلة

17 2 6
                                    


قصة قصيرة | عازف الحافلة
يوسف العلوي

صعد بجرأة وثبات إلى الحافلة. ظهر فجأة كنجم موسيقي يصعد إلى منصة مهرجان كبير أمام جمهور غفير من المعجبين.


كانت الحافلة مزدحمة، الكراسي شاغرة والفراغات كذلك. لم يشغل باله ذلك، فهو لا يصعد الحافلة ليجلس. إنه ليس كباقي الركاب، لا يُراقَب ولا يدفع ثمن التذكرة. بالنسبة له، هي حفلات نهارية يحييها بشكل متكرر على متن الحافلات طوال اليوم. حفلات يلتقي فيها مع معجبيه. يعتقد أنهم فضلوا استقلال الحافلة ليسمعوا صوته العذب، ويشاهدونه يلاعب حبال قيثارته الجميلة بأصابعه بمهارة.


مر الرجل عبر الراكبين، أخلوا له الطريق كأنه سيمر على البساط الأحمر ليحضر حفل توزيع جوائز الكرامي، إنه بروتوكول عفوي اعتاد عليه كلما صعد إلى حافلة من حافلات المدينة.


توسط الحافلة قادماً من مقدمتها. رجل في أواسط الستينات أو السبعينات، غلبه الزمن وسرقت منه الحياة كل شيء إلا مواهبه. حادثة سير مميتة لم ينقذه منها سوى آلته الموسيقية التي كانت على صدره، حالت بينه وبين الموت، ودافعت عنه أمام قطعة حديد كادت تثقب جسده. دفن زوجته ووالديه وابنته ثم التجأ إلى آلته حبيبته ورفيقته في الحياة.


قبعته الرمادية تلامس القضيب المعدني الذي يتمسك به الركاب الواقفون تفادياً لمكابح مفاجئة من طرف السائق. ملامحه البنية امتلأت بالتجاعيد التي خطت وجهه كأنها خريطة للطرقات التي سلكها، والأماكن التي عزف فيها. لكل خط في وجهه حكاية، فم عريض وأسنان أمامية لم يتبقَّ منها سوى اثنين أو ثلاثة تصارع الزمن. كان يلبس قميصاً أزرق مفتوح الأزرار، وسروال جينز أسود، وحذاء بالياً إلا أن جودته تعينه على جولاته الموسيقية.


أمسك آلته البنية الصغيرة، دائرية الشكل و سميكة ، رقبتها متوسطة الطول تزينت بحبال رقيقة تصدر أجمل الألحان. تركت الأعين كل شيء والتفتت تنظر إليه وانتبهت الآذان تحاول الإنصات إلى كلماته التي ضاع نصفها في ضجيج أبواق السيارات وأصوات المحركات خارج الحافلة.


-"السلام عليكم وطريق السلامة للجميع، إني هنا من أجلكم، أنا وهذه الجميلة سنطربكم، نواسيكم، ونمتعكم كما هي عادتنا، ومن أكرمنا أكرمه الله، ومن تعذر عليه رزقه الله" بابتسامته المعتادة بادر العازف وصاحب الصوت الرنان حفلته الموسيقية.


عدل وقفته ووضعية كتفيه وذراعيه لتناسب وضعية قيثارته، وكأن الإثنين زوج على وشك أداء رقصة من العصر الفيكتوري، بينما تنتظر الجماهير في ترقب وفضول.


انطلقت أصابعه الماهرة تلامس الأوتار بسلاسة وتصدر منها ألحان ونوتات موسيقية تعرف عليها أغلب الحاضرين، من بينهم أنا. انطلق صوته الممتلئ العميق والرنان وملأ الحافلة. تلقته جميع الآذان بدءاً بسائقها حتى آخر راكب في مؤخرتها. وبإيقاع ثقيل وبطيء:

"يا محمد صاحب الشفاعة والنور الهادي، يا محمد بيك نشهد من بعد الله يا محمد كن لي شفيع يوم الميعاد..."


-"رائع إنها أغنية أعرفها وأحفظها" حدثتني نفسي وقفزت أحاسيسي وأثارت الكلمات انتباهي كأنها شخص قديم التقيت به حيث لم أتوقع.


تبادل الركاب نظرات اندهاش، ولسان حالهم يقول "كيف تضيع مثل هذه الموهبة في الحافلات؟" بعضنا كان يدندن معه. أطربنا صوته وأعجبنا أداؤه كأنه مغني حقيقي على التلفزيون.


-"يا له من صوت جميل!" قالت فتاة مراهقة لصديقاتها المتجمعات في مقدمة الحافلة.


-"ما شاء الله، تستحق أن تكون نجماً يا رجل" قالها شاب كان يجلس في آخر مقعد.

كان هناك رجل مسن يجلس مع زوجته يتبادلان الآراء: "ألا يذكرك هذا الفنان يا خديجة، بأيام جميلة قضيناها بدار الشباب ابن خلدون، إن صوته رائع!"


بدأت الأيادي تتحرك والدراهم يُسمع صوتها تتراقص داخل الجيوب والمحفظات. شعرت امرأة في الخمسينات، بعمق الصوت والكلمات وانجذبت إلى إحساسه. نادته من مقعدها غير البعيد. مدت يدها ومد يده هو الآخر، وكأنه نجم يصافح أحد جماهيره من المنصة بينما يحاول أن لا تضيع منه الألحان بين أصابعه وصوته الجميل.


رفعت حقيبة ظهري وأخذت من جيبها الصغير بضع دراهم. تسلمها بامتنان وأظهرت ابتسامته العريضة أسنانه الباقية، وفراغاً بين فكيه خلَّفته الأسنان الساقطة، ولم ينقص ذلك من مظهر الفنان شيئاً.


اقتربنا من محطة ما! أوشك على إنهاء أنشودته. وقبل أن تتوقف الحافلة حيث أراد، ناداه أشخاص آخرون ليكرموه، وقد كان فرحاً بذلك. خاطب معجبيه مجدداً وقال: "كرمكم أيها الناس عظيم! شكراً لكم أراكم قريباً."

وضع آلته الموسيقية على ظهره. صنعوا له ممراً في الزحام، واتجه نحو الباب الأمامي كنجم يغادر المنصة من باب الكواليس. نزل من الحافلة، عبر الشارع متجنباً حفلة من السيارات الغاضبة، ثم توارى عن الأنظار.
ت

أليف يوسف العلوي

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 06 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

عازف الحافلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن