باب في العقل والذكاء

79 7 1
                                    

.......

قد يخص االله تعالى بألطافه الخفية من يشاء من عباده، فيفيض


عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل وزيادة معرفة تخرجه عن حد الاكتساب ويصير بها راجحاً على ذوي التجارب
والآداب،
كما نقل في قصة سليمان بن داود عليهما السلام وهو صبي حيث رد حكم أبيه داود


عليه السلام في أمر الغنم والحرث. وشرح ذلك فيما نقله المفسرون أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما


صاحب غنم، والآخر صاحب حرث. فقال أحدهما: إن هذا دخلت غنمه بالليل إلى حرثي فأهلكته وأكلته ولم تبق لي


فيه شيئاً، فقال داود عليه السلام: الغنم لصاحب الحرث عوضاً عن حرثه، فلما خرجا من عنده مرا على سليمان


عليه السلام، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، فقال لهما: ما حكم بينكما الملك؟ فذكرا


له ذلك. فقال: غير هذا.. أرفق بالفريقين. فعادا إلى داود عليه السلام وقالا له ما قاله ولده سليمان عليه السلام فدعاه


داود عليه السلام وقال له: ما هو الأرفق بالفريقين؟ فقال سليمان: تسلم الغنم إلى صاحب الحرث. فيأخذ صاحب الكرم الأغنام يشرب لبنها وينتفع بدرها ونسلها، ويسلم


الكرم إلى صاحب الأغنام ليقوم به، فإذا عاد الكرم إلى هيئته وصورته التي كان عليها سّلم


صاحب الكرم الغنم إلى صاحبها وتسلم كرمه كما كان بعناقيده وصورته، فقال له داود: القضاء كما قلت. وحكم به


كما قال سليمان عليه السلام. وفي هذه القصة نزل قوله تعالى: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه


غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكماً وعلماً" الأنبياء 78-79
وقد قيل لبعض الحكماء: بم يعرف عقل الرجل؟ فقال: بقلة سقطه في الكلام، وكثرة إصابته فيه. فقيل له:


فإن كان غائباً، فقال: بإحدى ثلاث إما برسوله وإما بكتابه وإما بهديته، فإن رسوله قائم مقام نفسه، وكتابه يصف


نطق لسانه، وهديته عنوان همته، فبقدر ما يكون فيها من نقص يحكم بها على صاحبها.
وقالوا: التجربة مرآة العقل،


ولذلك حمدت آراء المشايخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم فهم وعليكم بآراء


الشيوخ فإنهم إن عدموا ذكاء الطبع فقد أفادتهم الأيام حيلة وتجربة. قال الشاعر:

ألم تر أن العقل زين لأهـلـه ولكن تمام العقل طول التجارب

قال الأصمعي: رأيت


بالبصرة شيخاً له منظر حسن وعليه ثياب فاخرة، وحوله حاشية وهرج، وعنده دخل وخرج، فأردت أن أختبر عقله،


فسلمت عليه وقلت: ما كنية سيدنا؟ فقال: أبو عبد الѧرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قال الأصمعي: فضحكت منه


وعلمت قلة عقله وكثرة جهله..
وقد يكون الرجل موسوماً بالعقل مرموقاً


بعين الفضل، فيصدر منه حالة تكشف عن حقيقة حاله وتشهد عليѧه بقلة عقله واختلاله. وقيل: إن إياس بن معاوية


القاضي كان من أكابر العقلاء، وكان عقله يهديه إلى سلوك طرق لا يكاد يسلكها من لم يهتد إليها، فكان من جملة


الوقائع التي صدرت منه وشهدت له بالعقل الراجح والفكر القادح أنه كان في زمانه رجل مشهوراً بين الناس


بالأمانة، فاتفق أن رجلاً أراد أن يحج، فأودع عند ذلك الرجل الأمين كيساً فيه جملة من الذهب، ثم حج فلما عاد من


حجه جاء إلى ذلك الرجل وطلب كيسه منه فأنكره وجحده، فجاء إلى القاضي إياس وقص عليه القصة، فقال


القاضي: هل أخبرت بذلك أحداً غيري؟ قال: لا. قال: فهل علم الرجل أنك أتيت إلي؟ قال: لا. قال: انصرف واكتم


أمرك، ئم عد إلي بعد غد. فانصرف. ثم إن القاضي دعا ذلك الرجل المستودع فقال: قد حصل عندي أموال كثيرة


ورأيت أن أودعها عندك فاذهب وهيىء لها موضعاً حصيناً. فمضى ذلك الرجل وحضر صاحب الوديعة بعد ذهاب


الرجل، فقال له القاضي إياس: امض إلى خصمك واطلب منه وديعتك، فإن جحدك فقل له امض معي إلى القاضي


إياس أتحاكم أنا وأنت عنده، فلما جاء إليه دفع إليѧجه وديعته فجاء إلى القاضي وأعلمه بذلك. ثم إن ذلك الرѧل


المستودع جاء إلى القاضي طامعاً في تسليم المال، فسبه القاضي وطرده. وكانت هذه الواقعة مما تدل على عقله


وصحة فكره.

رحلتي في تحصيل المعارف وجمعهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن