عادته كل يوم أن يصلصل ويصلصل كلما جاءت التاسعة صباحا ويعلو صوته أكثر وأكثر كلما تظاهرت بعدم سماعه متمادياً في نعاسي ولكن مقاومتي تخور شيئاً فشئ فأستيقظ رافعاً رايتي البيضاء ناظراً اليه نظرةً سوداء يكتسيها الضجر فلطالما اقتلعني من نومي الهانئ الى دنيا الكد والتعب ولطالما أيضاً حبب الى شيطاني يوما بعد يوم أن احوله حطاما ولكنني سريعا ما اتذكر السبعة عشر جنيها التي أنقدتها لبائعه فأكظم النار في صدري وأكتفي بلكمة خفيفة على أعلاه توقف نداءاته المتكررة .ذلك المشهد يتكرر كل صباح بيني وبين منبهي ذو الصناعة الصينية الذي اشتريته من ذلك الخردواتي الذي يقطن في أسفل البناية المجاورة لمنزلي واستكمالاً لطقوس صحوتي المملة أترك فرشتي التي كثيراً ما أفتقدها متجهاً الى الشرفة طامعاً في اشتمام نسمات هواء تملؤني مجتمعتاً مع ضؤ الصباح بطاقة أتغلب بها على ذلك الكسل الذي يعتليني .ولكن هذه المرة كانت أبواب الشرفة الخشبية تبدو متبدلة عن ذي قبل تغيراً أفسد مشهدي الروتيني فبدت وكأنها كمن يكتسي بالسواد حزناً وعجزت مخيلتي عن التفسير ولما أثار ذلك الفضول في نفسي ظللت أدنو منها شيئاً وكلما اٌتربت منها شعرت أن تلك الخشيبات تريد البوح بذلك السر الذي تعجز عن حمله واخفاءه مادمت أنا مقدم عليها فمضيت في سيري نحوها لعلي أستنطقها فتخرج خفيتها ولكنها استماتت حتى أصبحت بمواجهتها فنظرت اليها فلم تكن مثلما عهدتها وانما طفق الغم عليها ففشلت أفكاري في الاتيان بتفسير فتحركت يدي نحوها تدفعها بشدة حتى يتراءى لي ما ورائها فوجدت الظلمات ما زالت تملأ الاجواء وكأن منتصف الليل قد حل منذ قليل .ظننت للوهلة الأولى أن منبهي قدضاق بي وبنظراتي الغاضبة كل يوم فأراد الانتقام وأن حزن شرفتي كان من جراء تلك الكذبة فعدت كي أفعل به ما حببه الي شيطاني فطرحته أرضا بضربة واحدةقاضية فتشتت أشلاءه في كل مكان فلم يملك الا أن همس بدقة الوداع وقبل أن أخلد مرة أخرى الى سباتي رواغني فضولي لمعرفة الحقيقة التي توارت وراء عقارب ذلك القتيل فاستشرت هاتفي النقال ولكنه أعلن تواطئه مع منبهي الذي مازالت دمائه تسيل فاكتفيت باغلاق الهاتف والقائه على المنضدة – وكأن الدنيا لا تجور الا على من قل قيمته وهانت ثكلته – ولكن ماهي لحظات تفقدت فيها تلك المعلقات الوقتية على جدران منزلي لأكتشف أن ذلك التوقيت لم يكن الا الحقيقة المرة وأن غياب الشمس هو الحقيقة الأكثر مرارةخيم صمت على تفكيري ولم أدري أمن عجز ذلك أم عدم تصديق ولم يحرك الساكن الا صراخ أطلقته بأعلى صوت كمن استفاق من كابوس ولكن ما أوقفني عن متابعة جنوني طرقات وأجراس سمعتها تدق بابي ولما استجبت لها وجدت أشخاصا قد أعرفهم أو لا أعرفهم بادرني أحدهم متسائلاً عن تلك الصيحات التي لوثت مسامعه ولما أخبرتهم بمصيبتنا لم اجد منهم الا هدوء جم وكأن على رؤسهم الطير ...وبعد أعوامالساعة الأن التاسعة صباحاً – كما يقولون – ميعاد صحوتي التي كنت معتاد عليها نهضت من سريري المكتسي بالبياض ثم اتجهت لفتح تلك الشرفة المنغمسة دائما في الأتربة وجلست من خلفها أراقب ناظراً في الأفق لعلي أتحسس بارقة توحي لي بعودة ضالتي ولكن هيهاتكانت هذه طقوس صحوتي الجديدة منذ أودعت تلك المستشفى ولا أعلم حتى الأن ما العلة وراء ذلك الظلام الدامس الذي أعمى بصيرتنا ، أهو من جهل أغرقنا أنفسنا فيه أم تفاهات ملأنا بها العقول وجعلنا لها الألوية ، أهو من غرائز تسيدتنا وأصبحنا نأتمر بأمرها أم من زيف أصبحنا نؤمن به كحقيقة ، أهو من ابتذال أصبح خصيصة فينا وفي أفعالنا أم من كذب تحول الى لغة بيننا ، أهو من وصمات تكتلت فوق أعيننا أم من تكدس لخطايا بشرية أحاطت بنا الى حد الاختناق .
YOU ARE READING
الإنتحار كفناً
Historia Cortaالسبب في أننا نسمي الأشياء حقيقة هو السبب في أنها حقيقة أي لأننا اعتبرناها كذلك بحسب تحقيقها لما نريده من أفعال عبدالرحمن بدوي رحمه الله