يكون الوعظ ذا ضرر بليغ في تكوين الشخصيه البشريه أذا كان بنشد أهدافاً معاكسه لقيم العرف الاجتماعيه
فإذا ذهب الأنسان الى المسجد. او الى المدرسه وأخذ يسمع وعظاً أفلاطونياً يحضه على ترك الدنيا، مثلا،ادى ذلك الى تكوين أزمه نفسيه فيه.
فهو يجب الدنيا من أعماق قلبه ويود الاغتراف من مناهلها بكلتا يديه. وهذا دأب كل أنسان في الغالب.
فالدنيا، ما فيها من ملذات ومغريات ومطامع، تفسد على الإنسان صلاته وتخلب بصره. لا ولا يستثنى من ذلك إلا الشاذ النادر. والشاذ لا يقاس عليه كما يقول المناطقه.
والإنسان حين يسمع الواعظ يعظه بترك هذا الدنيا الخلابه يمسي حائراً. فضميره يأمره بأطاعه الواعظ من ناحيه ونفسه تجذبه من الناحيه الثانيه نحو الدنيا جذباً لا خلاص منه. فهو إذن واقع بين حجري الرحى ، لا يستطيع أن يترك الدنيا ولا يستطيع ان يترك الجنه التي وعد بها المتقون.
يمكن ان عمر بن سعد ابي وقاص وقع ذات يوم في مثل هذا المأزق الحرج. فهو قد وعده ابن زياد بإماره الري إن هو خرج لقتال الحسين. فانتابته أنذاك الوساوس وبلغ منه التردد مبلغاً عظيماً .أيرفض قتال الحسين وفي ذلك للاماره ام يذهب لقتاله وفي ذلك مافيه من وخز الضمير وسوء المنقلب ويروى انه كان يتقلب حينذاك على فراشه وينشد البيت التالي:
أأترك ملك الريّ والـريّ منيتي
أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
ان هذا روايه راويه تروى. ونحن لا ندري مبلغ ما فيها من صدق. لكنها على أي حال قصه ذات مغزى نفسي. بعيد. فكثيراً ما تمر على أحدنا أحياناً أزمه نفسيه تشبه هذه الأزمة التي مر بها ابن سعد،حيث يقف حائراً لا يدري اي جانب يأخذ ......
وهذه الأزمة تنتاب النفوس عاده في المراحل التاريخيه الحرجه التي يصطرع فيها عاملان متناقضان :عامل المبادئ العليا من جهه وعامل الاغراء والطموح النفسي خير تمثيل.
وقد حدثنا المؤرخون أن كثير من الذين خرجوا لقتال الحسين كانوا يعانون شيئأً من هذا الصراع النفسي ، وظلوا أثناء المعركه يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى.
وهذا الصراع لم يكن معهوداً من قبل في المعارك المفتوح التي كان المسلمون يحاربون فيها أعداءهم. وذلك ان كل واحد منهم كان مؤمناً انذاك بأنه يحارب أعداء الله. فإذا حصل أحدهم أثناء ذلك على إماره أو غنيمه استبشرت نفسه بها فهو قد فاز بما يهفو اليه فؤاده وما يرتاح به ضميره في أن واحد.
أما في مأساه الحسين فقد كان الامر على خلاف هذا. إذ ان قتله الحسين كانوا كما وصفهم الفرزدق :(قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه ) ... وفي ذلك مافيه من نزاع نفسي مرير.
شوهد أحدهم أثناء المعركه وهو يرتعد ويرتجف. وقد كان معروفاً قبل ذلك بالشجاعه وشده البأس. فسئل عن ذلك فأجاب مامعناه :(إنه يرتعد من الحيرة لا من الخوف!). وقد التحق أخيراً بمعسكر الحسين وقتل معه
ان كلاً منا قد يصاب في يوم من الايام بمثل هذا الأزمة النفسيه الخانقه. ولكن النادر منا من يستطيع ان يحسم هذه الازمه بضربه واحده فيسرع نحو المعسكر الذي يعتقد فيه الحق كما فعل هذا الرجل. أن الدنيا خلابه مغريه كما قلنا ولا يستطيع كفاح اغرائها في نفسه إلا القليلون.
يحاول بعض الباحثين النفسين اليوم ان يحللوا الصراع النفسي على مختلف أنواعه ، وأن يجدوا له العلاج. فقد تبين لهم بأن أكثر الناس مصابون بشيء منه، قليل نفسه شتى . أستطاع فرويد ان يرجع كثيراً من ظواهر الحمق والهستريا وأرتباك الأعصاب الئ التصادم الذي يحدث في داخل النفس بين مبادئ الإنسان الخلفيه وما يهفوا اليه فؤاده من شهوات جنسيه عارمه.
أن المرضئ الذين عالجهم فرويد كان أغلبهم من النساء. وقد وجد فرويد أن سبب ذلك يعود إلى ان المرأه كانت في ذلك الحين واقعه بين دافعين متعاكسين. فهي كانت تؤمن بان الرغبه الجنسيه إثم كبير بينما هي كانت ،من جهه الأخرى ،مندفعه نحو إشباع تلك الرغبه أندفاعاً لا شعورياً عنيفاً
ان المجتمعات الحديثه بدأت تقضي على بعض أسباب هذا الصراع النفسي ،حين أطلقت الحريه للمرأة ورفعت من مستواها الثقافي والاقتصادي وسمحت لها بالاختلاط مع الرجل وبمغازلته ومراقته وملاعبته.
ومما يورث أيضاً الصراع النفسي هو ما يشعر به الأنسان من حب للمال أو الجاه والشهوه وما يوضع في معاكسه ذلك من مبادئ مثاليه تشدد في احتقاره وفي ذم الساعين إليه.
وقد يمسي الصراع النفسي على أشده حين يكون العرف الاجتماعي مقدراً للمال والجاه ،وآذ ذلك يكون الأنسان حائراً:حيت تدفعه القيم الاجتماعية من جهه نحو جمع المال والحصول على الجاه ،بينما يؤكد الواغظون من جهه الأخرى أن جمع المال رذيله وحب الجاه ذنب فظيع.
من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي اليها من قيم وأعتبارات. فالأنسان يود أن يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم. فأذا احترم الناس صفه معينه ترى الفرد يحاول شتى المحاولات للاتصاف بتلك الصفه وللتباهي بها والتنافس عليها.
وشر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياه في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق أخر معاكس له. وفي هذا المجتمع ذو الوجهين ينمو الصراع النفسي لدى بعض الأفراد ،ويأخذ بتلابيبهم. وقد يلجأ كثير منهم إلى حياة الانعزال أو الرهبه. أنهم لا يستطيعون أن يوفقوا في انفسهم بين تينك الدافعين المتناقضين. ولذا نراهم طلقوا الدنيا وذهبوا الئ صوامعهم أو أبراجهم العاجيه يجترون مثلهم العليا اجتراراً.
أما الباقون من الناس ،من الذين لا يستطيعون الاعتزال ،فنراهم يلجأون ،في سبيل التوفيق بين مبادئ الواعظ وقيم المجتمع ، الى حيله أخرئ _ هي مانسميها بإزدواج الشخصيه.
فنجدهم أنذاك قد تقصموا شخصيتين مختلفتين. أحدهما تصغي لما ينصح به الواعظون ثم تتمشدق به والأخرئ تندفع وراء ما يروق في أعين الناس من مال أو جاه أو أعتبار.
من الجدير أن نذكر آن للأنسان عقلين ظاهر وباطن ،وأننا ،حين نعظ الأنسان في هذه الحاله ، لانؤثر ألا في عقله الظاهر فقط. أما عقله الباطن فهو لايفهم من مواعظنا ونصائحنا شيئاً إذ هو مشغول بنا يوحي العرف الاجتماعي اليه من قيم وأعتبار.
أنت تقرأ
وٌعَّـاظَّ السُْلاطٌُــيٌن
Acakهذا الكتاب للدكتور علي الوردي لقد كان صدور الطبعه الاولى منه قبل أكثر من 40عاما من الزمن. قد فعل ضجه كبيره في حينه وأخذت تلك الضجه أشكالا عديده بالرد فصدر على مايزيد عن خمسه كتب ترد على هذا الكتاب ونأمل من القأرئ الكريم ان يتأمل الكتاب ويقرأه بتأني...