أُنشودة الحمام (قصة قصيرة)

1.5K 122 78
                                    

#أُنشودة الحمام
وقف عند نافذة شقته المطلة علي حديقة عامة يراقبها متذكراً أول مرة لمحها، حين نفذ مخزونه من القهوة و السجائر، و اضطر للذهاب لأحد المحلات لشرائهما ماراً بسور الحديقة الأمامي.. حيث كانت تتوسد ذلك المقعد المميز و تلقي بكسرات الخبز الصغيرة للحمام، و إبتسامة رقيقة تعلو ثغرها المكتنز الصغير.

يكاد من يراها للوهلة الأولى يظنها طفلة بسبب تلك الهالة البريئة التي تحيط بها، و هذه الرقة التي تبدو معها وكأنها قد صنعت من بلور أوخزف. شعرها بنيٌ متوسط الطول يميل قليلاً للسواد.. بيضاء البشرة، تكسو وجنتيها حمرةٌ خفيفة إثر سرورها برفرفة أجنحة الحمام حولها، و هديله الذي يوحي بفرحته لمجيئها. لم يعرف لون عينيها نظرا لبعد المسافة بينهما.. قد يقترب أحد الأطفال منها ليطعم الحمام معها، فتمتزج ضحكاتهما معاً بأنشودة تعزف لحناً للسعادة.

كانت لوناً جديداً مختلفاً عما أعتاده من النساء اللاتي كن ينجذبن له إنجذاب الفراشات نحو النار ليحترقن على محراب قدميه. كان يعي جيداً مقدار وسامته، و قوة شخصيته، و تلك القسوة التي فيه كانت تثير جنونهن أكثر و يفتنن به.

يعمل كمبرمج متخصص في إحدى شركات الكمبيوتر الكبرى،  طويل القامة، رياضي البنية.. شعره شديد السواد، أما عينيه فكانتا بلون الشهد الذهبي، تماماً كعيني نمرٍ شرس تحيط بهما رموش كثيفة تحسده عليها أي أنثى.

المرأة في حياته كالحذاء يرتديه للصولات و الجولات، ثم يلقيه ليأتي بغيره. لكن هذة المرأة الطفلة كانت غيرهن سيحتاج لسيناريو جديد ليجذبها إليه، و بعد أن يملّها سيتركها كالأخريات.

ظل يراقبها كل يوم من نافذته، ملاحظاً تكرر نفس الروتين.. تصحبها عجوز في نهايات العقد السادس في تمام السابعة، ثم تغادرها، لتعود مرة أخرى لإصطحابها في تمام الثامنة. في أثناء ذلك الوقت تطعم هي الحمام الذي يبدو وكأنه يعرف موعد وصولها، و ينتظرها. أما مقعدها، فيبدو أن رواد الحديقة يعرفون أنه لها.. حيث يظل شاغراً إلى أن يحين موعد إنصرافها.

ذهب إلى الحديقة يوماً، و جلس على مقعدها المعتاد. حين أتت العجوز معها بان عليها الارتباك و مالت تهمس بشيء في أُذن الشابة التي بانت معالم الضيق و التوتر على ملامح وجهها. وقف و أقترب منهما متأسفاً يهم بالمغادرة. أحمر وجه الشابة خجلاً و قالت بأنها تستطيع الجلوس على كرسي آخر، لكنه رفض مبتسماً متعللاً بأن موعد ذهابه للعمل قد حان. شكرته المرأة العجوز، و ابتسمت الشابة.

اكتشف من هذا اللقاء حقيقتين.. الأولى أن لون عيونها بلون السماء السرمدي، و الثانية أنها ضريرة. لم يعرف لما أعتصر قلبه ووجدانه شيء كان يظن أنه قد مات بداخله منذ زمن.. شيء يعرف باسم الضمير، و لكنه ابتسم ساخراً، و قرر أن يكمل حكايته معها للنهاية.

أنشودة الحمامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن