المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. يقول ابن القيم رحمه الله: (أصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة، فالنفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروهًا إلا لتحصيل محبوب أو للتخلص من مكروه آخره)( ). فجميع قوى الإنسان في سبات عميق حتى توقظها الإرادة، والإرادة نوعان: 1- دافعةٌ تدفع إلى عمل، كأن تحمله على القراءة. 2- مانعة تقصرها عن العمل. فالإرادة القوية تقدم مهما كلفها من المشاق، ولا تحجم أمام العقبات، وإنما تبذل ما في وسعها. والمقصود بالإرادة: هي الإرادة المتوجهة إلى الخير فهذه الإرادة هي سر النجاح في الحياة. فلقوة الإرادة أثر عظيم في انقلاب حال الأفراد والجماعات، فقوي الإرادة له شأن غير شأن ضعيف الإرادة، فيبلغ من المحامد الشيء الكثير. فلو أقيمت موازنة بين قوي الإرادة وغيره، لم نجد في أولئك الأخيار غير أنهم يهمون بالأمر فيعملون. والإرادة قد يعتريها ما يعتريها من الأمراض فلا تستطيع مقاومة الأهواء والشهوات، ومن المظاهر التي تعتريها أن يرى الإنسان الخير في شيء، ويرى وجوب عمله، ويعزم عليه، ثم تخونه إرادته فيستسلم للكسل. وعلاج هذه الإرادة المريضة يكون بأنواع من العلاجات ومنها: المجاهدة: بأن يجاهد المرء نفسه على تقوية إرادته، قال تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت: 69]( ). يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: هم الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. ويقول البغوي رحمه الله في تفسيره: المجاهدة هي الصبر على الطاعات، وقال الحسن: أفضل المجاهدة مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقيل: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة، وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. ويقول الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: إن الله أقسم على ذلك بدليل اللام في قوله: لنهدينهم. ويقول د. محمد الأشقر في تفسيره: هم الذين جاهدوا أنفسهم في الدعوة إلى الله لطلب مرضاته. ومن المجاهدة المفيدة في تقوية الإرادة: أن يحرم المرء نفسه من بعض ملذاتها، وأن يعودها على تحمل المشاق شيئًا فشيئًا، فمثلاً: - يحرم نفسه من النوم ويعودها على قيام الليل. - أو يحرم نفسه من الزيارات غير الهادفة ويعودها على استغلال الوقت بسماع الأشرطة أو القراءة النافعة. ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنما يجاهدها في ذات الله حتى الممات لأن المجاهدة عبادة، قال تعالى: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99]. قال ابن عقيل رحمه الله: (ولو لم يكن من بركات المجاهدة إلا أن يعطف الله عليك فيسخرها لك، ويطوعها لأمرك حتى تصير طوع يدك، وتؤثر العمل لله، وإن كان عندها بالأمس كريهًا، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلاً)( )، فمثلاً تؤثر مجالس الذكر لطلب العلم وإن كان عندها بالأمس كريهًا ثقيلاً. أقسام المجاهدة: قسمها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى قسمين: 1- مجاهدة الإنسان نفسه. 2- ومجاهدته غيره. فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء وتكون على شيئين: على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي، فتحتاج إلى مجاهدة، لا سيما مع قلة الرغبة في الخير. ومن أهم ما يكون مجاهدتها على الإخلاص لله عز وجل، يقول أحد السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص). كذلك من الطاعات الشاقة الصوم؛ لأن فيه ترك المألوف من طعام وشراب، فبعض الناس مثلاً إذا دخل رمضان، كأنما وضع على ظهره جبل والعياذ بالله، حتى أن بعضهم يجعل حظ يومه النوم، وحظ ليله السهر فيما لا ينفع. أما مجاهدة الغير، كالكفار والمنافقين وأهل البدع نجاهدهم بالعلم، إذن لابد أن يكون العلم راسخًا في القلب، والناس اليوم محتاجون إلى العلم لأن البدع انتشرت)( ). انتهى. يقول ابن الجوزي رحمه الله: (جهاد النفس من أعظم الجهاد). فما دامت على الجادة لم يضايقها، وإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإذا ضعفت وأبت فبالعنف، كالزوجة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب، وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم، هذه مجاهدة من حيث العمل، فمثلاً إذا أردت الخروج إلى أي مكان، حدث نفسك إن هي وقعت بالحرام، من غيبة أو نظرة محرمة أو سماع محرم أو أخلاق سيئة، فإنك ستعاقبها بدفع مال تنفقه في سبيل الله. أما من حيث وعظها: فينبغي لمن رآها تسكن للخلق الرديء وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول: ألست التي قال الله فيك، (خلقتك بيدي)، فإن ضعفت في العمل حدثها بجزيل الأجر وعظم الثواب. وإن مالت إلى الهوى خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها العقوبة الحسية، كما في قوله تعالى: }قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ{ [الأنعام: 46]، والمعنوية كما في قوله تعالى: }سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ{ [الأعراف: 146]، فهذا جهاد بالقول. ويقول: أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأن أقوامًا أطلقوها فيما تحب، فأوقعتم فيما كرهوا، وأقوامًا بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، إذن يجب التوسط. ويقول: تأملت العلم، فإذا هو يقوي القلب. فمن كان قلبه شديد القسوة قاوم ذلك بذكر الموت، ومن كان قلبه شديد الرقة ينبغي له أن يتشاغل بما ينفعه. وقد كان النبي r يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويسابق عائشة رضي الله عنها، وهذا لكي يبين لنا أنه لا مانع من التلطف بالنفس والرفق بها في بعض الأحيان». انتهى ( ). س: أي الجهاد أعظم، جهاد النفس أم جهاد الأعداء؟ ج: هذا ما سنعرفه من خلال تقسيم مراتب الجهاد: مراتب الجهاد: الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين. قال رسول الله r في جهاد النفس: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»( ). فكان جهاد النفس مقدمًا على جهاد العدو، فإنه ما لم يجاهد نفسه لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فجهاد النفس جهاد في سبيل الله إن كان بنية صادقة، إذن جهاد النفس أعظم من جهاد الأعداء. فجهاد النفس أربع مراتب أيضًا: 1- أن يجاهدها على تعلم الهدى. 2- أن يجاهدها على العمل به بعد علمه. 3- أن يجاهدها على الدعوة إليه. 4- إن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله( ). ما ورد في فضل المجاهدة: 1- الهداية: قال تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا{ [العنكبوت: 69]. 2- محبة الله: قال رسول الله r: «إن الله تعالى قال:... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...»( ). إذن النفس تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات، ثم بفعل المستحبات. 3- تحول الطاعة إلى لذة: يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم علم إنسان مجرب أنك إذا أكرهت نفسك على طاعة الله أحببت الطاعة وألفتها، وتأبى نفسك أن تتخلف عنها. 4- إذا قام بعمل يكرهه طاعة لله وصل إلى الجنة، قال رسول الله r: «حفت الجنة بالمكاره»( )، لهذا تجد الإنسان يستثقل الصلوات مثلاً، ولا سيما في أيام الشتاء، ولا سيما إذا كان الإنسان في نوم بعد تعب، فيكره أن يصلي ويترك الفراش اللين الدافئ، ولكن إن هو كسر هذا الحاجز وقام بهذا المكروه، وصل إلى الجنة( ). 5- ما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره أن يصل إلى درجة النفس المطمئنة ( ). س: أي النفوس تحتاج إلى مجاهدة؟ ج: نعرفها من خلال التعرف على أنواع النفس التي سنذكرها: أنواع النفس: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: اتفق السالكون إلى الله أن النفس قاطعة بين القلوب وبين الوصول إلى الرب طريقًا، ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها، فالناس على قسمين: - قسم ظفرت به نفسه، فأهلكته. - قسم ظفروا بنفوسهم، فصارت منقادة لأوامرهم. وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة. 1- النفس المطمئنة: هي التي سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، واشتاقت إلى لقائه، وهي التي يقال لها عند الوفاة: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً{( ) [الفجر: 27، 28]. فإذا اطمأن من الشك إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرياء إلى الإخلاص، وصل إلى اليقظة التي كشفت عنه سنة الغفلة، فرأى سرعة انقضاء الدنيا، فاستقبل بقية عمره مستدركًا ما فات، ويرى في تلك اليقظة عيوب نفسه، وعزة وقته، وهي أول منازل النفس المطمئنة التي ينشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة ( ). 2- النفس الأمارة بالسوء، (المفتونة بالشهوات والهوى): هي التي تأمر صاحبها بما تهواه، وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء في قوله تعالى: }إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي{ [يوسف: 53]، ولم يقل: (آمرةً) لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة ( )، وهي المذمومة، فإنها التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا إن وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله، قال تعالى: }وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا{ [النور: 21]. يقول ابن القيم: سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب، يقول r في خطبه الحاجة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»( )، وقال r لحصين: «أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها» فأسلم، فقال: قل: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي»( ). 3- النفس اللوامة: (المجاهدة الصابرة): قال تعالى: } وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ { [القيامة: 2]. قيل: هي كثيرة التقلب، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتسخط. وقد قيل: هي نفس المؤمن. قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا. وقيل: اللوم يوم القيامة، فإن كل أحد يلوم نفسه، فإن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره. يقول الإمام ابن القيم: وهذا كله حق. واللوامة نوعان: اللوامة الملومة: هي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته؛ لأنها تلوم صاحبها على تقصيره بدون بذل جهد، باقية على تقصيرها بدون أي تغيير أو تقدم، فمثلاً: الإنسان يلوم نفسه على إضاعة وقته في البيت بدون فائدة، بدون أن يبذل جهدًا، كأن يخصص له وقتًا معينًا للقراءة، وإن لم يقرأ يعاقب نفسه ويلومها بشدة، ولكن للأسف لا يبذل جهدًا بل يترك لنفسه الراحة في النوم والكلام والخلطة، فإذا هي باقية على تقصيرها وإضاعة وقتها. اللوامة غير الملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت ملام اللائمين في مرضاته، فلا تأخذ فيه لومة لائم، وهذه قد تخلصت من لوم الله تعالى. أما من رضيت بأعمالها، ولم تلم نفسها، ولم تحتمل في الله لوم اللوام، فهي التي يلومها الله عز وجل. وخلاصة القول: إن النفس واحدة، تكون: أمارة ثم لوامة ثم مطمئنة. والنفس المطمئنة قرينها الملك يرغبها في الحق، ويزجرها عن الباطل، فمثلاً إذا أرادت أن تصلي الضحى فإذا بملك يرغبها في أجر صلاة الضحى فتصلي وهي راغبة نشيطة. وأما النفس الأمارة، فجعل الشيطان قرينها يقذف فيها الباطل( )، فمثلاً إذا أرادت أن تقوم الليل أو تصلي الفجر، فإذا بشيطان يقول لها: أمامك ليل طويل وأنت الآن متعبة بسبب السهر. فتنام ولا تُصلي. فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله، وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله. والملك مع النفس المطمئنة عن يمنة القلب، والشيطان مع النفس الأمارة عن يسرة القلب والحروب مستمرة( ). والنفس اللوامة يتنازعها الملك والشيطان، فالملك يحثها على تصديق الحق، مثلاً يقول لها: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. والشيطان يحثها على تكذيب الحق، يقول للمرأة مثلاً انمصي حاجبك فالله غفور رحيم، مع أن عقاب النمص عظيم، قال r: «لعن الله النامصة والمتنمصة»( ). وقد قيل: كيف تستوي النفس المطمئنة إلى ربها، العاكفة على حبه، التي لا داعية تدعوها إلى الإعراض، والنفس المشغولة بمحاربة هواها؟ قالوا: ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه، يكون صاحب النفس المطمئنة قد قطع مراحل من سيره، كما لو كان رجلان مسافرين في طريق، فقطع على أحدهما قاطع اشتغل بدفعه ومحاربته، والآخر سائر لم يعرض له قاطع، فإن هذا يقطع من المسافة أكثر( ). يقول ابن القيم رحمه الله: المطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة، وهذا ثواب مجاهدته وصبره وتشميره( ). - إذن كيف نعالج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه؟! يقول ابن القيم رحمه الله: له علاجان: محاسبتها ومخالفتها. * محاسبة النفس وأخذها بمبدأ الثواب والعقاب: فإذا قصرت حرمها من بعض ما تريد، فمثلاً إذا قصرت النفس في ناحية من نواحي العبادة، وقصرت في أدائها، عاقبها بأن تدفع مبلغًا من المال أو تصوم، وهكذا، ولو دفع مالاً ولو كان قليلاً. مثلاً ريالاً واحدًا لوجد أنه يدفع في اليوم عددًا من الريالات على كل خطأ أو معصية أو تقصير، فإذا به يكتشف أن نفسه مقصرة كثيرًا، فينتبه، ويشد العزم، فلا يزال الدفع يتناقص شيئًا فشيئًا، وذلك دليل على أن النفس أخذت تتبدل كثيرًا بالمحاسبة، والتجربة خير برهان، فالنفس كالطفل تحتاج إلى ثواب وعقاب حتى تستقيم، على أنه لا ينبغي أن يطيل في محاسبة النفس؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباض النفس، قال تعالى: }وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ{ [الحشر: 18]، يقول عامر بن عبد الله: (رأيت نفرًا من أصحاب رسول الله r وصحبتهم، فحدثونا أن أحسن الناس إيمانًا يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه). فهذا الحسن البصري يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه، فيأتي أحدهم إليه في الغداة ويقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا فيقول له: إني قلت: (يا حسن لعل الله نظر إليك على بعض هنَّاتك، فقال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئًا)، بهذه الحساسية كانوا يعيشون فكان خلقهم القرآن، وروى الإمام أحمد عن النبي r قال: «الكيس من دان نفسه -أي: حاسبها- وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»( ). يقول ابن القيم: محاسبة النفس نوعان: النوع الأول: قبل العمل: قال الحسن رحمه الله: (رحم الله عبدًا وقف عند همه فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخر). وهي أربعة مقامات: أ- هل ذلك العمل مقدور عليه أم لا؟ فإن كان مقدورًا وقف وقفة أخرى. ب- هل فعله خير له من تركه؟ فإن كان خيرًا وقف وقفة أخرى. ج- هل الباعث عليه إرادة الله عز وجل أم لا؟ فإن كان نعم، وقف وقفة أخرى. د- هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ ولا يفوت النجاح إلا من فوق خصلة من هذه الخصال الأربع. النوع الثاني: بعد العمل: وهو ثلاثة أنواع: 1- محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى. 2- محاسبتها على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله. 3- محاسبتها على أمر مباح له فعله وهل أراد به وجه الله فيكون رابحًا أم لا؟ فالإهمال يؤدي به إلى الهلاك وهذه حال أهل الغرور، يتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه، فيسهل عليه مواقعة الذنوب. وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا، تداركه بالإصلاح، ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل تداركه بالذكر، ثم يحاسبها بما تكلم وبما سمع. ويعلم أنه لا بد أن ينشر لكل حركة وكلمة ديوانان: لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة، قال تعالى: }لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ{ [الأحزاب: 8]، فإذا سأل الصادقين، فما الظن بالكاذبين( ). واعلم أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نورًا من حسناته فيفرح. ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة وهي الساعة التي عصى الله تعالى فيها، فيفزع. ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهي الساعة التي نام أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح. ويتحسر، فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تميلي إلى الكسل، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك. وقال عمر t: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا): }يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ{ [الحاقة: 18]، فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمى بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، وهي مثبتة }أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ{ [المجادلة: 6]. كما ينبغي أن يعاقبها إذا قارفت معصية بتثقيل الأوزار عليها، كما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه فاتته صلاة في جماعة فأحيا الليل كله تلك الليلة. فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟!! فاعمل في أيام قصار لأيام طوال، اخرج من الدنيا خروج الأحرار قبل أن يكون خروج اضطرار( ).