الذكريات...أكثر ما قد يقتلك قيد حياتك،و ينزع منك طعم الحياة..
الذكريات هي تلك الصور التي تقف عائقا أمام مستقبلك،و هي تلك اللقطات التي تجرك إلى ماضيك و تسعى للنيل منك.
الذكريات هي ما تألم لها القلب، و بكت لها العين و ألمها قد يجعلك ثملا في أرض المعانات...نعم ذلك الألم القهار الذي يستحليه المرء و يذوق من نبيذ الشوق..ذلك النبيذ الذي يجعل منا سكارى تائهين في أحلامنا..نرفض الاتصال بالواقع و الإستجابة له..
و لقد كنت أيها الأسمر ذكراي...
في هذا الكتاب المرير،بين صفحاته تجد قصتي ملجأ لتنفس عن الألم،عن الغضب،عن الشوق،عن الحنين،عن المرار الذي تذوقته من كأس عشقك.
ذلك الأسمر الذي أسر قلبي و لم يكن قدري..ذلك الأسمر الذي جعلني أعاني و جعل قلب فتاة أمها يصيح حرقة للقاءه.
لا تعتبروها قصة يا أصدقائي..اعتبروها مذكرة معدومة تحكي في آخر لحظاتها ما جعل منها ميتة على قيد الحياة.
أو تلك العاشقة التي ستتجرع السم الفتاك لتصل إلى حبيبها الذي أحبته الموت و اتخذته رفيقا لها.
هذه المسكينة التي تجرأت و أخيرا على أن تحمل القلم بين يديها و تسرد قصة نهايتها..كانت فتاة عادية..نعم..كنت فتاة ككل الفتيات؛فتاة حظيت بطفولة هادئة بين أحضان والديها و في دفئ أسرة تعيش في منزل متواضع يضم أربع أفراد،كنت أحيى بسلام مع أمي و أبي و أخي الذي أحببته أكثر من نفسي،كان يكبرني بعشر سنوات و كان الغطاء و السند لي في كل مشكل قد يعترض طريقي،و قد كان-إن صح التعبير-معشوقي الأول.
لكني فتاة ملعونة الحظ بائسة المصير،فقد حطت الموت رحالها في منزلي الصغير و اتخذت من أبي رهينة دائمة لديها.
كنت آن ذاك في الثانية عشر من عمري،لم أكتفي من حبه بعد،من حضنه،من لحيته التي كانت توقظني بخشونتها عندما كنت أطأ رأسي على صدره بحثا عن السلام الذي يوصلني إلى عالم الأحلام.
لم أكن اكتفيت قط من صوته العالي الذي يملأ أرجاء البيت،أو نظراته الغاضبة عندما أخالف أمرا من أوامره، أو حتى يده الخشنة التي كانت تحكي بما فيه الكفاية عن ذلك الرجل المغوار الذي تصلبت يداه محاولا تأمين العيش لنا.فقد كان أبي حارسا ليليا لمجمع سكني،لم يكن يهتم لنفسه كثيرا،فقد كان يرتدي من الملابس ما سئم منه الناس و كانت القمامة مأواه الأخير،لأنه كان يأمن مالا لملابس جديدة لي و لأخي..
أحيانا و رغم صغر سني كنت أتسائل ماذا لو عشت في بلد أمين صادق يخلو من البطون الجشأة التي تغتني على حساب كل فقير مقهور..أو لم تتخذ النهب و تضييع الحق العام وسيلة لمكسبها،و كنت دائما أصل في تساؤلاتي إلى طريق مسدود و جواب وحيد:" حسبنا الله ونعم الوكيل".
بعد وفاة والدي عملت أمي بكد و سهرت و عانت لتأمين عيش كريم لي و لأخي و لكي نكمل دراستنا و نعوض ما فاتنا من حرمان. فقد عملت خادمة في البيوت و تحملت المعاملات القاسية و الألفاظ البديئة من مشغليها و ذلك من أجلنا.لكن أخي كان هدفه صعب المنال،فبعد سنتين من وفاة والدي صار حلم الهجرة يعمي بصيرته،و ما كان من حل له سوى أن عمل بجد ليلا كحارس هو الآخر لأحد النوادي الليلية و نهارا بائعا متجولا لكي يحصل على مال يحقق به آماله.
لم يكن حلمه باليسير،لكن ما بالك لو أصبح حلمك هو ما قد ينهي حياتك..
تأملت في عقارب الساعة ذات ليلة ممطرة،كانت-ولا يمكنني النسيان-الخميس: كانت تشير إلى 23:45 دقيقة بالتحديد عندما رن جرس بيتنا و نبرة منخفضة لرجل هرم من رجال الشرطة يخبرنا بضرورة استلام جثة الفقيد أكرم الله مثواه.
لم أعر الأمر اهتماما بداية ظنا مني أنه أخطأ العنوان،لكن ما أيقظني من وهمي حين قال أن أخي مات غرقا في القارب مع 8 أشخاص آخرين في محاولة لعبور الضفة الأوروبية.
أحسست وقتها بتفاهة حياتي،ففي أقل من سنتين شهدت موت أعز الأشخاص في قلبي،اثنان من الأدرع التي كانت تحميني، وكذا شاهدت انهيار أمي أمامي التي فقدت رفيق دربها و فلدة كبدها.
هنا أيقنت حق اليقين على أن هذه الحياة هي بمثابة شخص متجبر و متسلط لا يفكر سوى بنفسه و لا يعير الآخرين اهتماما.
سماني أبي اسما يدل على الأمل لأنه أرادني أن أتمسك في حياتي بالأمل ، و في تلك الفترة أدركت أن أمل اسم لا يعنيني بالمرة.
يقال أن الشخص لا يستطيع أن يحيى دقيقة كاملة بدون أمل، لكني حطمت المعتقدات..وصرت بائسة تنبض بالحياة.
غيرت من تصرفاتي و طباعي،قتلت طيبتي و نقاء قلبي،و تحولت من طفلة بريئة إلى شابة يافعة ذات 14 سنة صاحبة قلب الحجر.
عشت على العداوة و الخصام مع كل من يعرفني من أصدقاء و جيران رافضة التقرب إلى أحد لأني أدركت جيدا أن الموت في تحدي ضدي لتأخذ كل شيء مني،و لم يكن أمامي سوى هذا الخيار لردعها عن مبتغاها،لكن صمودي لم يدم طويلا،فقد دام حتى بلوغي سن السابعة عشر من العمر، حين قابلت معشوقي الأسمر الذي غير نظرتي للعالم.
ذلك الأسمر هو معشوقي،فتاي الذي خلت لمدة أنه قدري،و ربطت به وصالي-و بفضله- الصلة مع الحياة التي كنت قد قاطعتها منذ زمن.
أحببت آن ذاك الحياة من جديد، أحببت نفسي، أحببت الناس، أحببت العالم، و أحببته هو لأني أحببته بصدق.
كان ذلك الأسمر شابا معتدل القامة، حسن الهيئة و المنظر، كنت أنظر على أنه امتلك جمال جميع أقرانه، فقد كان شابا في العشرين من عمره، كنت أخلط بينه و بين القمر، لو لا أن القمر أبيض و هو أسمر، تركت نفسي أغوص في عالم الأحلام-الذي غبت عنه لسنوات-لكي أجعل منه معشوقي..معشوقي الأسمر ذو أعين وسعت ما وسعته رحمة الله بالعباد،و على خده قبلتا ملائكة أرسلهما الله إليه ليباركه، كنت أدرك عظمت الله في الخلق عندما أنظر إليه..رأيت في لحيته الشقراء القصيرة لحية أبي الذي رأيته فيه، و سمعت في صوته نبرة معشوقي الأول-أخي- الذي رأيته فيه ؛ ببساطة، أحببته لأني رأيت أغلى ما أملك فيه.
كنت طالبة آن ذاك و كنت متفوقة في دراستي لو لا أن طردي من مدرستي القديمة كان نقطة تحول كبيرة في قصتي.لا أعير قصة الطرد أهمية لأنها كانت سبب سعادتي فيما بعد، لكن كان السبب في ذلك هو ضربي لمدرسة مادة الرياضيات-استحقت ذلك- لقولها أن أخي كان يستحق الموت و ذلك لكونه حارسا في أماكن مشبوهة و أنه يسيء و يفسد أخلاق بني سنه و كان عقابه الموت،فاستحق ضربة ساحقة بالكرسي على إهانتها هذه.
اضطررت للالتحاق بمدرسة كانت تبعد عني مئات و ربما آلاف الأميال و هذا ما جعلني أستقل حافلة النقل العمومي يوميا.
لم أدرك آن ذاك أن تلك الحافلة ستصير عالمي الجديد ، عالم أكسب فيه معارف جديدة ، أصدقاء جدد ، و تتغير نظرتي إلى الحياة أو بالأحرى إطلاق سراح "أمل" تلك الفتاة التي لا زالت سجينة لدى الماضي و ذكرياته المرة القاسية.
كانت الأيام الأولى بمثابة انتحار بالنسبة لي، فلم يكن الإستيقاظ المبكر و استقلال الحافلة يوميا بالأمر الهين،لكن الممارسة اليومية جعلتني أعتاد على هذا النمط الجديد.
في بداية الأمر رأيت مكاني الجديد-حيث هي مدرستي الجديدة-على أنه لوس انجلوس، فكثيرا ما كنت أحلم أن أزور مدينة الأضواء التي لا تنام لكن هذا لم يتجاوز حلما فقط.فقد كان المكان يعج بالناس من الطبقات الغنية،لا أنكر أني أحببت الإختلاط بهم و كنت أريد أن أبدو مثلهم حيث أنهم هناك لا يعيرون اهتماما لكلام الناس و لا أعرافهم البالية لا في طريقة اللباس أو التصرف، فكان قلبي يضخ ألما حين أدرك النعيم الذي ينعمون به على عكسي تماما لم أكن أملك مالا للتصرف بلباقة مثلهم، كنت لا أزيح عيني عن الفتيات الواتي يتمتعن بشبابهن و يمرحن و يذهبن للأماكن الراقية و التي لم أظن أني سأستطيع أن أدخل إليها في حياتي، و حتى الفتيات التي يعشن في منطقتي و يستقلن الحافلة معي كان لهم حظ وافر و نصيب من الحياة المثالية،فقد كنت أحتقر نفسي عندما أرى جمالهن، و أشمأز من ثيابي عندما أرى فساتينهن و ثيابهن، فآن ذلك لم يكن لدي سوى بضع أقمشة بالية لا تمث للموضة و لا لذلك العالم بصلة و أرتديها دائما كما لو كانت جلدي.
لم تكن لدي صديقة أبدافي بداية الأمر، فقد كنت وحيدة، فتاة لا تجيد المشي إلا من بيتها إلى مدرستها و العكس،و و أردت أن أركز على دراستي لكي أعوض العوز الشديد الذي أنا به الآن و كان هذا هو حلمي الوحيد،قبل أن يغير القدر مخططاتي.
كانت كل واحدة من أقراني تحظى بحبيب يشاطرها قلبها و فكرها و أوقاتها، رغم أن طبقة الشباب التي تعشقها الفتيات و المعروفين بوسامتهم لم يكونوا مخلصين في علاقاتهم.لقد كانوا شبان وسيمين لا يهتمون بالدراسة بل يضيعون وقتهم فيها لكي يلبوا رغبة آباءهم و إن توقفت هنا للحظة فقد كان قرارهم الحاسم هذا بشأن الدراسة راجع إلى يقينهم أنه مهما كنت مجدا و مخلصا و متفوقا فإنك في بلد لن تمنح لك فيه فرصة إلا لو كان والدك ذو منصب و جاه و حتى لو كنت لا تفقه في العلم شيئا.
و كانوا دائمي المداومة على الخمر و الممنوعات و التدخين فهذا ناتج عن سخطهم على الوضعية التي أمست بها بلادنا.
و كلهم كانوا أصدقاء أوفياء لبعضهم البعض و شكلوا علاقات مثينة بينهم.
و في مساء يوم،كنت كعادتي أنتظر قدوم الحافلة للرجوع إلى البيت مع الحشد الهائل من الطلبة و التلاميذ و كذا المتنقلين.رأيت شابا غريبا لم يسبق لي أن رأيته-أو بالأحرى لم انتبه له قط-يرتدي قبعة واقية من الشمس يمر بقربي و هو في طور انهاء السجارة التي كانت بيده، و كان شارد التفكير حتى ألقى بها مشتعلة على حذائي. استشطت غضبا منه و كنت أشعر برغبة في تحطيم وجهه لو لا أنه غادر مسرعا إلى أصدقائه دون أن يعير لما فعله انتباها.
و في اليوم التالي عندما كنت متوجهة إلى موقف الحافلات،التقيت صدفة بذلك الأبله المعتوه الذي كاد أن يتسبب في حرق قدمي.
كنت أبعد عنه ببعض خطوات من خلفه فثارت نار الغضب بداخلي و أسرعت راكضة نحوه و أدرته إلي بأقصى قوتي، فتفاجأت بقلبي ارتفعت نبضاته، و أحسست بحرارة تسري في كل شرايين جسمي، كما لو أن لهيب السجارة التي ألقاها علي أسرت مفعولها، فقد رأيت من خلت أنه قدري،رأيت ذلك الأسمر ذو الأعين البنية اللون.و هناك رسمت له في أحلامي قصرا جعلته سيدا له و أنا عبدا لسيده،و هنا بدأت قصتي .
أنت تقرأ
القدر الملعون😟😔The Unblessed Destiny
Short Storyكثيرا ما نعاني..نعاني من الألم..و خيبة الأمل، نعاني من الجراح و الأسى على ما راح، هذه القصة هي قصة مستوحات من قلوب ضاق بها الزمن، و أصبح القلم فيها هو المتنفس الوحيد للتعبير عن الألم و الحظ العاثر. القدر الملعون قصة تحكي حياة فتاة بسيطة يلعب معها ال...