١- في غابة الوحوش

17.4K 220 6
                                    

العاصفة كانت ما تزال تضرب التلال خلال فترة بعد الظهر ، ولكن نورما تطلعت الى السماء الافريقية الزرقاء قبل أن تخرج ، وقررت أن العاصفة ما تزال بعيدة عدة أميال ... ولكنها لم تكن كذلك .
الغيوم الراعدة المنذرة بالسوء ، تجمعت مثل كرات من الصوف الناعم القذر في السماء وتكثفت بسرعة هائلة فوق تلال "سيرتيجتي" ، ولم يعد الرعد صوت يأتي من البعيد بل أصبح دويا هائلا بعث الخوف في قلب نورما . فى مكان ما ، لمعت السماء بالبرق والرعد الغاضب دوى عبر التلال والأدغال الصفراء الجافة . وارتعدت نورما ودفعت المفتاح في لوحة إدارة سيارتها الفورد . ودار المحرك ببطء ثم توقف وتمتمت بالصلاة ، ثم حاولت من جديد ثم من جديد . أن تكون في قلب محمية طبيعية واسعة ، تحتوى على الأسود والضباع ، ليس المكان المناسب لهذا العطل .
إدارة المفتاح الآن أصبحت مجرد تكتكات لا طائل منها . فالبطارية كما يبدو قد استنزفت ، وضربت نورما المقود بغضب . ما هذا الحظ المثالي السيئ ! لابد ان النحس يلازمها منذ فترة ، ونظرت حولها الى الاجمة الجافة اللون ، بحر من العشب الجاف يمتد هنا وهناك ، الى جانب الأشجار الشوكية وكأنما تتوقع أن ترى عيون الأسود من خلالها .
ماذا ستفعل بحق الشيطان ؟ ليس مزاحا أن تعلق وسط طريق رملية في وسط "سيرنيجيتي" على بعد عشرة أميال من المخيم مع سيارة معطلة ، وبوجود عاصفة تتقدم بسرعة هائلة . لابد أنها كانت مجنونة لخروجها وحدها . لقد تركت زملاءها الخمسة الآخرين يلعبون الورق في المخيم ، لانها لم تكن راغبة فى إضاعة آخر يوم لها فى هذه المحمية الطبيعية سدي . فغدا سيعودون إلى "مومباسا" كي يصعدوا إلى متن زورق بيرت التجاري الكبير ويقلع بهم عائدين الى بريطانيا .
ونظرت إلى السماء ولم يفتها أن تلاحظ أن الوقت ما بين البرق وصوت الرعد قد بدأ يتضآءل ، فالعاصفة في طريقها الى هنا .
فهل ستستطيع العودة الى المخيم قبل أن تنفجر ؟ واستدارت في مقعدها لتنظر إلى الطريق من خلفها .. لاشئ .. لايوجد أي أثر لسيارة آخري على الطريق الترابية الضيقة ، ولا أي شكل لحيوان بري . لاشئ سوي الأراضي الاستوائية المليئة بالعشب الجاف . والأسوأ من هذا كما ادركت نورما بمرارة ، أن ما من أحد قد يفكر بالخروج في مثل هذا الطقس . ولن يكون هناك أية حركة سير على الطرقات بعد ظهر هذا اليوم ، لا أحد فى الواقع سوى مجنون غبي يمكن أن يترك مخيمه .

- اللعنة !

وتذكرت التعليمات التى قالها لهم رئيس حرس المحمية ، بأن لا تضع قدمها خارج السيارة ضمن أراضي المحمية . وأضافت :
- "سيرنيجيتي" ليست حديقة حيوانات ، الادغال مليئة بالحيوانات التى تستطيع أن تهاجم البشر ، فلا تخرجوا من سياراتكم مهما كانت الأسباب .

وسأله أحدهم :
- وإذا تعطلت السيارة ؟

- عندها تغلق نوافذ السيارة جيدا وتجلس ساكنا فيها . فستصل النجدة إليك عاجلا أم آجلا . فنحن نقوم بدوريات على الطريق بإنتظام ، لذا فلا شئ يقلق . ولكن إذا خرجت من السيارة وحاولت أن تسير فكل ما سنجده منك بضع عظام فقط .
وقتها أصدرت نورما أصواتا تنم عن الرعب . ولكنها الآن وهي تتصب عرقا في السيارة ، بدت لها كلمات رئيس الحرس تهديدية أكثر منها واقعية ، فهي لم تشاهد حتى الان أي أثر لأي حيوان .
وعلى الفور اتجهت أفكارها إلى رالف كالعادة ، والى بعض الحركات الخفيفة ، ربما لم تكن منتبهة جيدا ، ولكن ما عدا بضعة طيور وسحالي غريبة الشكل ، كانت الغابة تبدو فارغة وكأنها آخر مخلوق حي على وجه الأرض ، ودوى الرعد بقوة ومسحت العرق عن شفتها العليا .
كم مرة يا ترى يجوبون المنطقة بالدوريات ؟ مرة في اليوم ؟ مرة في السنة ؟ وتنهدت بيأس ، لقد بدت لها فكرة زيارة أفريقيا : " كينيا ترحب بكم ، بمحمياتها الطبيعية وشواطئها الجميلة " كأفضل طريقة للتهرب من تحطم قلبها على يد رالف كلارك ، ومن شكوكه التى حولت حياتها الى جحيم . لقد تخيلت أشجار النخيل والمشروبات الباردة اللذيذة ، والراحة حيث تستطيع الجلوس ومراقبة الحيوانات وهي تنظر إليها ،وتصغي إلى ضربات الطبول . وليس هذا .. هذه الأراضي القاحلة التى تظللها الآن الغيوم العاصفة ، وهذه الحرارة التى لاتحتمل ، وبالطبع لم تكن تتصور أن تعلق في سيارة مستأجرة على بعد أميال من اللامكان اللعين هذا ، دون امل فى النجدة ودون ماء ومسحت جبينها ، وحدقت فى الأراضي الجافة من حولها بعينيها البنيتين المضطربتين .
فكرة بانها ستصبح مشوية مثل الكركند خلال يومين أو ثلاثة تحت حرارة الشمس أو أن تموت جوعا ، أو أن تضربها صاعقة خلال الدقائق المقبلة ، بدأ يقنعها بأن اللقاء مع حيوان متوحش وجائع أكثر إغراء من هذا . عشرة أميال مسافة بعيدة للسير ، ولكن الطريق أمامها تبدو سهلة . وهي شابة كاملة الصحة لاتزيد عن الثالثة والعشرين ، حسنا : اثنان وعشرون وثلاثة أرباع . إذا تبللت بالمطر فهذا على الأقل افضل من الحرارة التى لا تحتمل داخل السيارة . إضافة الى أن احدا لن يعرف أين سيفتش عنها .
وأخذت قرارها وانزلت ساقيها الطويلتين من السيارة ثم أقفلت الابواب ، وبدأت السير فوق الطريق الترابية الحمراء باتجاه المخيم . كان الجو أبرد في الخارج . ونظرت خلفها الى السيارة الفورد الزرقاء ، وهي تشعر بانها اتخذت القرار المناسب . وابتسمت ابتسامة كشفت عن وجه جميل ومدت ذراعيها .. وتصورت لو أنها بقيت في السيارة طوال اليوم ! كم ستكون نهاية ساخرة لفتاة في الثالثة والعشرين ، تموت جوعا وراء مقود السيارة ، سجينة داخل قفص خائفة من الخروج الى العالم الواسع الردئ . علاوة على ذلك فهناك الإثارة في السير عبر عشرة أميال من المحمية المليئة بالأسود . وسوف تروي قصتها دون إكتراث بالطبع وهي ترى عيني رئيس الحرس تتسعان بذهول وإعجاب وهي تخبره ببرود أن محميته الثمينة ليست خطرة كما يعتقد .
ولكن بعد أن أوصلها الطريق التراب الصغير الى وراء التلة واختفت الفور عن ناظريها ، ووجدت نفسها وحيدة تماما فى أراض افريقية غير مأهولة ، بدأ قلبها يخفق وبدت الرحلة التى أمامها طويلة جدا ، وربما غير سارة . عشرة أميال ! مع كل هذه الاسود من حولها ! لقد شاهدتها تتمدد تحت الشمس قرب شواطئ بحيرة كبيرة . وبدت لها وكأنها قطط منزلية كبيرة . وتوقفت لتنظر إلى خلفها ، مستعدة للركض بكل قواها عائدة الى القفص الحديدي المتحرك الصغير ، بأبوابه القابلة للإقفال ، وسقفه المانع للمطر ومقاعده المريحة ، ودوي صوت الرعد من جديد . وابعدت الفكرة الجبانة عن ذهنها ، وتابعت سيرها بشجاعة .
وتطلعت بذهول إلى التلال المنبسطة والاشجار الشوكية ، وهي ضائعة عن العالم من حولها . وخق قلبها لشعورها بحرارة هذه الاجمات . واحست بشئ يقطع الطريق خلفها ، انها واثقة بأنها سمعت صوتا . ووقفت متوترة ، ترهف سمعها لتسمع تكرار الصوت . هل هي مخالب أم حوافر ؟ ربما يكون غزالا صغيرا . ولمعت السماء مجددا ، ثم انفجرت ودوي الرعد اصبح اقرب . وتابعت نورما طريقها بقلق ، وهي تشعر بضعفها أمام الغابة الواسعة . كانت قد اختارت أن ترتدي حذاء رعاة بقر وهو حذاء جميل طويل الساق اشترته من "مومباسا" ولكن الكعب العالي اخذ يلتوي داخل الرمال الحمراء ،
ومسحت العرق عن شفتها العليا ثانية ، وهي تفكر ما إذا كانت الريح تحمل رائحتها ، وما إذا كان هناك أنف حيوان أسود يشم بفضول هذه الرائحة الغريبة ، المؤلفة من حرارة البشر وقماش والجلد والعرق وعطر "ديوريسيمو"؟
واتسعت الارض أمامها ، وعادت تفكر برالف ، كانا قد اتفقا على الانفصال لمدة ثلاثة أسابيع . وكانت ستمضى هذه المدة في أفريقيا ،
وسيتابع هو عمله في الوطن . فماذا سينتظرها ياترى عندما تعود ؟ مواساة رقيقة ؟ انا آسف يا حبيبتي ، ولكنني لا استطيع ان اتابع معك ؟ أو ليس هناك شئ من الافكار الساخرة تتسلل إلى ذهنها عندما تفكر برالف ؟
ماهذا الصوت ؟ بالطبع لا يمكن لمخلوق ان يسمع وقع اقدامها فوق الرمال الناعمة ؟ فكل شئ لابد ان يكون محتميا تحت شجرة الآن . منتظرا قدوم العاصفة . كم يا تري سارت حتى الآن ؟ ربما ميل ، وربما أقل . ونظرت إلى الوراء من فوق كتفها باضطراب . سيكون رائعا العودة الى شاطئ البحر .
في البداية كانت ستسافر إلى كينيا بالطائرة ، ولكن عندما اكتشف رالف أن صديقه بيتر آشتون كان ينوي السفر بقاربه من انكلترا إلى افريقيا أصر على أن هذه هي الفرصة المثالية لها . وماذا تطلب أكثر ، بيتر ورفاقه الأربعة يخططون لزيارة "سيرنيجيتي" .. وتستطيع الذهاب معهم ، أليس كذلك ؟ ولم تكن نورما متحمسة في البداية ، فهي لا تثق ببيتر ولا بالزمرة الفاسدة التى يسافر معها . إضافة إلى أن الرحلة البحرية سوف تضيع جزءا من وقتها الذى ستقضيه في "سيرنيجيتي " . ولكن رالف أصر وكعادتها فعلت ما طلبه منها .
الرحلة من بريطانيا كانت مريحة . واكتشف الخمسة شبان وشابات ، ان نورما ليست من طبقتهم ، وهذا ما جعلها تشعر بالسعادة ، لأنهم تركوها تفعل ما يحلو لها . فتمددت تحت الشمس ، قرأت القصص الرومانسية ، وراقبت الآخرين يمتعون أنفسهم بطريقتهم الخاصة . ولكنها كانت تتساءل ماذا سيقول والدها عن رفاقها الخمسة فى رحلتها . الخمسة المشهورين ... كما سمتهم فى نفسها .
على الرغم من السماء التى بدأت تظلم ، كانت الطريق أمامها تلتمع من الحرارة . وأحست بالحرارة الزائدة . ونظرت ثانية من فوق كتفها . وكان صعبا أن تبعد الشعور المخيف عنها بأن شيئا ما يراقبها . ربما كان من الأفضل أن تبقى فى السيارة .... هل سيكون لدى المشهورين الخمسة عقلا كافيا لبدء حملة تفتيش عنها ؟ ونظرت فى ساعتها . حتى الآنه ، لابد أنهم يد بدأوا خامس جولة من لعبة القمار فيما بينهم ، ويضحكون بهستيريا على نكاتهم السخيفة الخاصة . وابتسمت لنفسها : كان يلزمها هذه العطلة لتعرف تماما ما هى نوعية أصدقاء رالف . وعادت إلى النظر خلفها . قميصها "التى شيرت" كان مبللا ، ويلتصق بجسدها بشكل غير مريح ، عندما تعود إلى المخيم سوف تأخذ حماما ساخنا وتتناول شرابا باردا ، ثم ستطلب ، عصيرا غنيا من ....
صوت خفيف جعلها تلتفت بذعر . لابد أن شيئا هنا . شئ كان يتبعها بين الأعشاب المرتفعة ، ووقفت مسمرة فى مكانها ، وأذناها ملأتها رعبا . الضباع ! وفكرت برؤوسها الكبيرة البشعة ، وفكها القوى الكبير القادر على طحن العظام وكأنها البسكويت الهش ، وأسنانها القاطعة . لقد عرفت ان الضباع ليست كما هو الرأى السائد حيوانت تقتات ببقايا الجثث فقط ، بل أنها الحيوانات المفترسة الأكثر قساوة ، ووحشية فى أفريقيا .

هزيمة القمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن