فتاة اجتماعية جميلة متفوقة في دراستها، هذه هي الوصفة التي تمنحك فتاة قريبة من صفة الكمال. هكذا كانت هي. محاطة بالصديقات و الأصدقاء، و معجبون يتتبعونها بأنظارهم، كانت مشهورة في مدرستها بشخصيتها القيادية و روحها المرحة، هذا جعلها على رأس السلم الغذائي، على رأس الجميع. في مقابلها كان الفتى المنبوذ من طرف كل التلاميذ. ذاك الذي لا يرضى لنفسه لباسا غير الأسود، و لا يقبل لملامحه تعبيرا غير الحزن. بعينيه نظرة توحي بالفراغ و العدم، و كفاه لا تفارقان جيوبه، كما لا تفارق نظراته الأرض.
كيف أصبحت هي، المثالية، غارقة في حبه هو، المليء بالعيوب؟
بدأ كل شيء عندما كانت في عمر الثامنة. جالسة في مقدمة الصف تثرثر مع رفيقة مقعدها بطفولية قبل مجيء الأستاذ، كان يمشي وراءه فتى في مثل عمرهم لكنه كان قصيرا، شعره ناعم جدا، و شفتاه ممتلئتان، بينما عيناه الكبيرتان تلمعان منذرتين بقرب بكائه. كان يمسك بطرف مئزره بكفين صغيرتين، يقلب النسيج بين أصابعه بتوتر،حتى حثه الأستاذ على الحديث، فرفع رأسه قليلا، و تمتم بصوت شبه مسموع:"م-مرحبا. أنا بارك جيمين"
حينها أول ما طرأ بذهنها، أن بارك جيمين هذا كان جميلا، كأنه منحوتة فنية.
كانت الأيام التالية صعبة عليه، هو الفتى الجديد الخجول بشكل مزعج، خصوصا أن زملاءه أطلقوا إشاعة تافهة على أنه في الأصل فتاة و يكذب حيال جنسه.
لم يدركوا حينها أن بضع كلمات نطقتها أفواههم ستجعل جيمين عرضة للتنمر طول حياته.
كانت تترقبه و هو يعزل نفسه في ركن قصي و يضم ركبتيه لصدره، كانت تشعر بالأسى نحوه، لكن ربما تأذيه أكثر لو اقتربت، ربما لن يفهم أنها لا تقصد أن تسيء إليه كما فعل غيرها، و ربما تفقد صديقاتها إذا تقربت إليه و أظهرت له الاهتمام الذي كان يحتاجه بشدة.
لهذا دفنت مشاعرها لثمان سنوات،أبقتها حبيسة صدرها لعلها يوما ما تسأم و ترحل في حال سبيلها، لكنها كانت كل يوم تحبه أكثر. كان بارك جيمين هو تعريف المثالية في عينيها، و تمنت لو أنها كانت قريبة منه بما فيه الكفاية ليستشف خبايا فؤادها دون الحاجة منها لإرهاق نفسها بالتفكير في وسيلة للاعتراف.
و بينما هي تتجاهل الحديث معه في المدرسة، كانت تقضي جل وقتها في البيت تتأمل صورة له و تبكي بحرقة.
حتى أتى ذلك اليوم.
كانت تتناول وجبة العشاء رفقة والديها و أخيها الصغير، أحاديث روتينية تسري بينهم بسلاسة، لكنها سرعان ما اختل نظامها حين سقطت الملعقة من يدها على الطبق مصدرة صوتا مزعجا. التفت والداها لها، كانت تضع كفيها على جانبي رأسها و تئن بألم.
بضع حصص عند الطبيب و فحوصات قليلة كانت كافية لتأكيد الشكوك.
أصيبت بورم دماغي.
لم يعد لحياتها أي معنى.
و رغم غرابة الأمر فإن أول ما تبادر لذهنها بعد سماع الخبر هو جيمين.
إذا ستموت دون أن تحقق ما قضت سنوات تحلم بحصوله؟
لن يبتسم لها، يمسك يدها، يعانقها، أو على الأقل يسمح لها بمصادقته؟
إذا، كل هذه السنوات من عمرها كانت بلا هدف أو معنى؟
هنا قررت ما ينبغي عليها فعله.
و الوقت كان يداهمها، لذا لا بد أن تسرع .
عادت إلى بيتها بعد يوم مرهق، و أطلقت العنان لقلبها أمام ورقة بيضاء، يتخذ القلم مسارا ليخرج ما ظل بجعبته أمدا طويلا.
ثم وضعتها في ظرف محكم الإغلاق، و نامت، أو حاولت النوم و عقلها الباطني يصور لها كل السيناريوهات الممكنة لما سيحدث لاحقا.
شعرت بالغباء الممزوج بالتوتر و هي تمد يديها حاملة الرسالة باتجاه جيمين ، الذي ظل ينظر إليها بعينين تحملان تعبيرا لا معنى له، مفرط في البرودة منغمس في اللامبالاة.
"ما هذا؟"
"إنها رسالة.."
" هل أخبرك أحدهم أنني ساعي البريد؟"
"لا! إنها لك"
"لي أنا؟ ألست مخطئة؟"
"لست كذلك.. هل تستطيع قراءتها؟"
"سآخذها حتى لا أحرجك، لكنني لا أضمن لك أن أقرأها أبدا"
"أتفهم هذا، لكنني سأكون سعيدة لو فعلت"
"هل أبدو لك شخصا يهتم لسعادة الآخرين؟" قالها و رحل تاركا إياها تقول "أنت تفعل، جيميناه"
استمرت بمحاولاتها للحديث معه و إقناعه بقراءة رسالتها، لكنها باءت جميعها بالفشل.
و بعد أن تأكدت أنها لن تنجح في ذلك، استسلمت.
و ظل جيمين مستمرا في عناده.
و حين تأكد أنها ستتوقف عن إزعاجه، تنفس الصعداء، و قرر أن يحرق الورقة الغبية بمجرد أن تتجاوز قدماه عتبة بيته.
لكن ها هو ذا، متسمر أمامها، لا هو قادر على قراءتها و لا هو يملك ما يكفي من الجرأة لحرقها.
و ظلت الرسالة في مكانها ذاك، تنتظر أن يكتشف الفتى فحواها او يسمح للوساوس باستيطان عقله و يلقيها طعاما للهب.
مرت الايام على جيمين روتينية، غير أنه لاحظ أن الفتاة المزعجة-كما يلقبها- قد اختفت.
سمع بعض الزملاء يقولون أنها مريضة.
لا يدري حينها لم أحس بالراحة.
ربما لأنه ظن أنها لن تعود؟ لكن لماذا هو خائف من ذلك أصلا؟ هو لا يعرف عن الفتاة شيءا سوى أنها كانت رفيقة فصله لعدة سنوات، لكنها كانت قطب العالم الموجب بينما هو يتربع على عرش السلبية. لذا لم يحتك بها يوما قبل اللحظة التي قدمت له فيها الرسالة. الرسالة التي مضى شهر على وجودها ببيت هذا الأخير دون أن تلمس إلا بغرض نقل موضعها و إبعادها عن مرأى العين .
لكن ليس بإمكانه إنكار الشعور الغريب الذي راوده حين غابت صاحبتها لأسبوع كامل، ثم عشرة أيام.
هل كان مرضها كفيلا بجعلها تترك المدرسة لكل هذا الوقت؟
كان يوما ماطرا حين دخل أستاذهم بآثار البكاء تعلو محياه و هو يسرد الخبر الحزين.
"كيم جيهيو ماتت"
كان يدير عنقه في حيرة متفقدا وجوه زملائه المصدومة. من هي جيهيو هذه ؟ هل يعرفها؟
أكمل الأستاذ: "لقد كانت مصابة بورم دماغي، لذا تغيبت عن المدرسة طويلا قبل أن تفارق الحياة ليلة البارحة"
حينها صفعت الحقيقة جيمين بقوة حتى أحس بعروقه تتمزق. إنها المزعجة صاحبة الرسالة. لقد ماتت.
لكنه لا يهتم.
إذا لم تسيل الدموع غزيرة على وجنتيه الآن؟
لا بد أن شيئا ما دخل عينه.
أليس كذلك؟ فبارك جيمين لا يهتم لموت أحد التلاميذ المتكبرين الذين يتنمرون عليه.
لكن جيهيو لم تتنمر عليه.
لكنه لا يهتم.
هل فعلا لا يفعل؟
أخيرا استسلم للحزن الذي غزاه و أقر أنه يهتم بشدة.
وضع رأسه على الطاولة و انطلق صوت نحيبه يعلو شيئا فشيئا حتى التفت الجميع إليه.
جيمين يبكي.
بارك جيمين الذي لم يسبق له أن غير تعبير وجهه البارد، يبكي لكأنما فقد أحد والديه.
عاد إلى بيته مكسورا، يمشي مترنحا كالثمل. لم تكن الأرض و لا السماء كافيتين لتسعا حزنه و ألمه حينها. لكن أقوى شعور أثقل كاهله هو الندم. لماذا لم يهتم لها ؟ لم كان يدفعها بعيدا كلما حاولت التقرب؟ ألم يكن خيرا له أن يقبل عروضها المغرية و يصادقها؟ لم لم يقرأ الرسالة؟
مهلا.. الرسالة..
سرع خطواته حتى وجد نفسه أمام الباب، فتحه و المفتاح ينزلق بين يديه الصغيرتين المبللتين بدموعه، ثم صعد راكضا لغرفته يبحث بين كتبه عنها.
ثم وجدها.
في ظرف وردي أنيق.
لكن الورقة بالداخل كانت بخط يد غير منظم، لا بد أنها كانت مضطربة آنذاك.
تردد قليلا قبل أن يسمح لعينيه بالقراءة و لقلبه بالاستماع مليا.
"إلى بارك جيمين.
مرحبا! أنا اسمي جيهيو
من السخيف أن أبدأ رسالتي بمرحبا، لكنني في الواقع لطالما تمنيت أن أستطيع إلقاء السلام عليك.
رسالتي هذه تافهة جدا، و كمية الإحراج التي اجتاحتني و أنا أخطها كادت أن تقتلني إن لم تفعل بالفعل.
لكن لا خيار لدي، الوقت يداهمني و لا بد أن أخبرك بكل ما ظللت أخبئه بعناية طوال هذه السنوات.
أولا: بارك جيمين، أنت جميل.
لا أقصد وسيما، فالوسامة نسبية تختلف حسب ذوق الشخص، لكنك جميل. كأنك لوحة فنية، منحوتة، أو شيء أتى من الجنة. عندما أنظر إليك تبدو لي لامعا. لا أدري هل هذا راجع لضعف نظري لكنني متأكدة أنك لم تخلق لتكون بيننا.
ثانيا: ابتسامتك تسعدني.
صحيح أنك تبتسم نادرا، لكن هل سبق أن أخبرك أحد أن ابتسامتك مفرطة في الجمال؟ ربما سأستخدم كلمة جميل كثيرا فأنا أعجز عن وصفك كما يجب، معجمي للجمال يفقد مفرداته حين يقف أمام ابتسامة كتلك. لذا من فضلك، ابتسم أكثر.
ثالثا: يداك مثاليتان.
أحب يديك كثيرا، منذ أن عرفتك و أنا أتساءل كيف سيكون ملمسهما بين خاصتي، لكنني لم أجرؤ على الاقتراب منك بما فيه الكفاية لتمسك يدي.
رابعا: صوتك عذب.
سمعته مرات عديدة حين كنت تغني في فصل الموسيقى. تطربني كلما تفعل. صرت أعجز عن التلذذ بالموسيقى لأنها ليست صوتك جيمين، كنت ترفعني للسماء بنغماتك و تعيدني أرضا بهدوء. كم أحب صوتك.
خامسا: أحبك.
قد يبدو هذا غريبا.
أنا لم يسبق أن كلمتك من قبل.
لكنني أحبك بكل ما يمكن لهذه الكلمة أن تعنيه. بكل ما يمكن أن يتصوره عقلك أو يتلمسه وجدانك. بكل ما في العالم من مشاعر صادقة. لقد وقعت حين رأيتك، و مضيت أقع أكثر حتى وجدتني غارقة حتى الثمالة، عاجزة عن البوح لك أو الهروب منك، عالقة بين الاثنين.
هل تعلم كم من الاضطرابات تحدثها في قلبي الصغير دون أن تلقي لها بالا؟ كلما رأيتك تزداد دقاته بشدة حتى يوشك أن يفلت من صدري.
وددت لو عانقتك بارك جيمين.
حينها سأخبرك كم أنك ثمين جدا و غال جدا و تستحق كل ما في هذا الكون من حب و اهتمام.
كنت سأخبرك أن المتنمرين يحسدونك على مظهرك الملائكي و قلبك الطيب.
لأنهم لن يكونوا يوما بمثل نقائك، حاولوا أن يجعلوك متسخا.
و رغم القوقعة التي أحطت نفسك بها، علمت أنك لا تزال بارك جيمين الذي أحببت أول مرة، و أنك لم تصبح قاسيا، حين رأيتك تلاعب قطة في الشارع و تبتسم لها بحنان.
تلك الابتسامة التي ترسل فراشات بأحشائي و تجعلني أرغب بالبكاء من شدة جمالها.
هل تعلم جيمين؟
سأموت!
أخبرني الطبيب أنني أملك شهرا لأرحل، و قبل أن أقرر حزم حقائبي، قررت الاعتراف لك.
قال لي أنني مصابة بورم دماغي، أهذا لأنني فكرت فيك كثيرا جدا حتى عجز عقلي عن التنفس؟ ربما.
لكنني لم أندم يوما على الوقوع في حبك.
ملاكي.
أرجوك كن سعيدا.
لا تسمح لهم ان يدمروك فأنت أقوى، أريدك أن تستمر بالابتسام دون توقف و أضمن لك أنه سيحيط بك أشخاص لطفاء مثلك في وقت وجيز.
أنت فتى ولد ليسعد.
ولد ليمنح غيره الامل بابتسامته.
أنت لم تولد عبثا. لم تفعل صحيح؟
تذكرني.
حين تغلق عينيك مسترسلا في أحلامك، سأكون ممتنة إن أدرجتني في قائمة ما تريد أن تراه فيها.
حين تعبر ممرات المدرسة، أتمنى أن أتبادر إلى ذهنك للحظة، و تنفرج عن شفتيك ابتسامة.
هل يمكنك ذلك؟
ألا أستحق أن تلبي لي هذا الطلب الصغير؟ سأموت قريبا على أي حال... هل ستفعل؟
أرى أن الرسالة استطالت فوق حدها.
آسفة على كل شيء.
أحبك بارك جيمين.
أحبك جدا.
كيم جيهيو" ❤
--------------------------------انتهى 😃
اتمنى ان تكون قد نالت اعجابكم 💙
إذا قرأها عدد كبير و وجدت مهتمين، ربما أجعلها رواية، تتمة للأحداث و مفصلة أكثر 😛
شكرا لكل من سيقرؤها 😊💜
أنت تقرأ
الرسالة|The Letter ○PJM○
Fanfiction🌟نصف حلم مبتور ..ربع رطل من الحزن ..ألف منديل ورقي ..مئة و تسعون دمعة ..ثم حياة لست فيها ، فكيف المعيش ؟ 🌟 ~ونشوت-بارك جيمين 👑