الزهرة الأولى

153 13 34
                                    

كان باردًا
ذلك الهواء العليل الذي لفحَ وجهي للحظات
رائحة أزهار اللافندر النفاذة قد داعبت أنفي
وخصلات شعري باتت تتراقص على أنغام الرياح
تشكلت صفوف لا نهاية لها من زهور اللافندر حتى خط الأفق
حيث تعانق لونها الاخاذ مع لون السماء الصافي
"اللافندر هو روح الحياة في كوياجاك"

بهذه العبارة تُسْتَقبل في قرية كوياجاك التركية وبها ترحل من أرضها، ترحل وروحك كلها تفوح
لافندر.
شهر يونيو قد حلّ وحلّت معه البهجة.
ككل فصل صيف، آت إلى هنا، إلى بيت جدتي.
أحط قدمي التي ما عادت تستطيع حملي من مشقة الحياة ومن ثقل الهموم المحملة على ظهري، على هذه الأراضي الخلابة ولا أكاد انزعها حتى أراني أخط نحو نفس المكان
تلك الحقول.
والتي بجانبها يقبع بيت جدتي.
فتستقبلني أحر استقبال وتعرفني على جيرانها الجدد وتاخذني معها في جولات قصيرة، واقضي نهاري الأول ككل عام هكذا.
رغم تلك التجاعيد التي كست وجهها وتلَوُن شعرها بالرماد الذي يذكرني بذلك الجو الغائم في شتاء ديسمبر البارد إلا أنّ قلبها كان صيفا وروحها كانت ربيعا.
لم أكن أشعر بمرور الوقت ولم أكن اعبس أو يخالجني شعور الملل وانا هنا.
كان هذا المكان مصدر شحن طاقتي وتجديدها
كان مصدر إلهام لي
وكان مصدرا من مصادر سعادتي وابتسامتي التي حُفرت في وجهي كعضو من أعضائه.

استلقيت فجأة على ظهري.
بقيت هكذا للحظات
لم أكن نائمة، ولكن فقط تركت لنفسي مجالا كي تسبح في بحر أحلامها وتصوراتها
اتذكر كل شيء هنا
كل تلك التفاصيل الصغيرة مازالت قابعة في عقلي ومحفورة في قلبي ومسجونة بين جدران من فولاذ في ثنايا روحي.
"أختي"
بهذا النداء فتحتي عيني لتقابلني أخرى بلون التفاح.
"ديزي"
همست وانا ابتسم نحو اختي الصغيرة التي تقف على مقربة مني وهي تمسك بيدها زهورها التي حملت نفس اسمها، جثت بسعادة وحماس على ركبتيها وتناثر فستانها الوردي على زهور اللافندر وقالت بعد أن جمعت أنفاسها

"اختي، انظري ماذا اعطتني جدتي، قالت أن هذه الزهور تشبهني وانها تشاركني اسمي أيضا، أوليس هذا مدهشاً"
نظرت نحو تلك الزهور للحظات، زهور ديزي أو كما يطلق عليها زهرة الربيع من أجمل الزهور وابهاها، تحمل في طياتها معانٍ ورموز عدة، ولها كباقي الزهور لغة خاصة بها.
كنت قد عملت في متجر للزهور لسنوات، وخلالها لم أكن مجرد بائعة فقط، بل تعمقت فيها وعرفت لكل زهرة حكاياتها المنوعة واساطيرها العجيبة وحتى لغتها الخاصة.
بنيت علاقة غريبة معها وصرت اعشقها واعشق عملي وكانت جدتي من حببتني في هذا العمل وصارت لمساتها وخبراتها تتناثر عليّ وتتجمع على اناملي، وهكذا توارثتها هي عن اجدادها وهكذا تورثها لاحفادها.
قضمت شفتي السفلة بحماس واعتدلت في جلستي وانا أوجه نظري نحو ديزي واقول لها بتساؤل
"أجل، أعلم، ولكن هل تعلمين حكايتها ? وما تخفي في جعبتها من أسرار?"
نفت ديزي كلامي وحركت رأسها بسلب وعيناها تشع فضولا، فقلت وانا اسحب وجنتها برفق
"إذن سأخبرك"
نظرت نحو السماء ثم استلقيت مجددا وفعلت ديزي المثل، كنا نحدق فيها للحظات، هي تنتظرني حتى ابدا الكلام وانا اجمع الحروف المشتتة في عقلي وارتبها فوق لساني وعلى حدود شفتاي

"كان هناك في إحدى الأزمنة وفي مكان بعيد جدا، ملك يدعى ملك الغابة، كانت كل تلك الغابات الخلابة مِلكا له ولم يكن يتجرأ أحد على دخولها دون إذن منه وكان ذو قوة خارقة ونفوذ واسع، وفي أرجاء غاباته كانت تسكن الحوريات"

"وهل هنّ مثل حوريات البحر"

سألتني ديزي فجأة وهي تضع كف يدها على رأسها وتستلقي على جنبها ونبرة الاغتباط طاغية على سؤالها الفضولي

" لا، بل كنّ حوريات الغابات، وكانت إحداهن خطيبته، وبها من جمال القد وحُسن الوجه ما جعل الأخريات يغرنَ منها بشدة، وذات يوم قرر الملك أن يقيم حفلا كبيرا، دعى فيه سائر ملوك الأرض، فأتوا من كل حدب وصوب لهذا اليوم المميز، حيث كان سيعلن فيه موعد زفافه بخليلته"

توقفت للحظات وانا اتذكر باقي القصة، تنهدت بخفة وسحبت نظري من زرقة السماء نحو اخضرار مقلتي ديزي وقلت بعدما استرجعت الأجزاء المفقودة

" هل تعلمين ماذا حصل بعدها?! "
" لا "
نفت هي بطريقة طفولية ولطيفة للغاية

" لاحظ اختفائها من القصر بعد انتشار لحن الموسيقى فيه وبحث في كل مكان ولم يجدها حتى خطت قدماه بهدوء نحو الغابة ليجدها تراقص ملكا آخر"
شهقت ديزي وهي تضع يدها على فمها وتقول
"هذا سيئ "

اومأت لها بهدوء وأردفت

" غضب غضبا شديدا وقرر التخلص منها بعدما قتل ذلك الملك، ولكن قلبه لم يطاوعه على فعل ما خطط له عقله لذا حولها لزهرة تتفتح مع طلوع الشمس وتنغلق مع اختفائها، لذا عين الشمس كان إحدى ألقابها ولكن ديزي كان الاسم الأنسب لها"

صمت وانا ارتقب ردة فعل اختي التي بدت منذهلة مما سمعته عن وردتها التي تحملها بين يديها بحرص
بقيت تمسح عليها بهدوء ونعومة وهي تخبرني عن إعجابها بالقصة وأنها ستخبر أصدقائها بها عند عودتنا إلى بيتنا
لم الحظها بهذا الهالة من السعادة من قبل، وقد رآق ليا الأمر بطريقة ما
فهي ذكرتني بنفسي
قبل ست سنوات تحديدا
لم تكن ديزي موجودة في ذلك الوقت
وكنت تلك الفتاة الوحيدة البائسة التي لا تنفك عن التذمر
وكان حينها قرار والديّ بارسالي إلى تركيا
حينها تغيرت حياتي تمامآ
لطالما كانت القرارات التي نتخذها تؤثر في حياتنا وحياة غيرنا
وقرار والديّ كان نقطة تحول لمسار حياتي بطريقة جدُ إيجابية
وانا حقآ شاكرة لربي على منحي إياهم وشاكرة لهم على كل ما فعلوه لأجلي
انتشلني من انغماسي كف يد ديزي وهي تحرك معصمي وتقول وهي تلوي شفتيها
"لافندر.. إنني اناديك منذ لحظات"

اعتذرت لها وأنا اقبل يدها قائلة

"آسفة فقد شردت للحظات، إذن ماذا كنت تقولين يا عزيزتي"

"كنت أفكر، بمآ أنّ لاسمي حكاية، فهل لاسمك المثل?"

سألتني بتذاكي، لم أعلم بما يجب علي أن أبدأ

فلافندر ليست مجرد زهرة

لافندر اسمي

ولكل اسم حكاية

.
3/11/2017
💕

لافندر ¦¦ H.Sحيث تعيش القصص. اكتشف الآن