"لا أصدق؟؟!! ماذا تقول؟ أرجوك قل أي شيء إلا هذا!؟ أيها الطبيب! أتوسل إليك، ألا يمكنكم فعل اكثر من ذلك حيال الامر ابداً؟؟! "
"أنا حقاً أعتذر سيدي، ولكن هذا أقصى ما نستطيع القيام به للطفل، المضاعفات المترتبة على الولادة أثرت على المنطقة السفلية من عموده الفقري بشكل كبير، مما أثر على جهازه العصبي الحركي في قدميه، وهذا سيؤدي الى جعله غير قادر على المشي."
تقدم الطبيب مربتاً على كتف الأب، و قال مواسياً: "العلم في تطور مستمر، لا تيأس سيدي، أنا متأكد من أن طفلك سيكون قوياً ويواجه الأمر، كما أن ولادته كانت صعبه جداً مع حالته التي مرَّ بها، وبسبب إرادته القوية استطاع النجاة، لذلك قلت بأن طفلك قوي، لا تريه يوماً نظرات الشفقة هذه على وجهك، لأن الأطفال هم أكثر من يفهمون هذه النظرة، كن أنت سنده الذي يحتاج كي يتكئ عليه"...
بعد اندثار تلك الكلمات في أُذني الوالد، تشبث بالحائط منهاراً على الارض، فالطفل الذي كان ينتظره على أحر من الجمر، وتاق لرؤيته منذ تسعة أشهر لا يستطيع أن يكون كباقي الأطفال، تساقطت دموعه كأنهار حزينة ممسكاً قلبه بقوة عاضاً على شفاه قهراً على طفله، الطفل الذي لم يتعد عمره دقائق، إلا أن الحزن الذي رافق ولادته يساوي سنين من القهر...
مشى الأب متلككاً متأكاً على حائط المشفى، وعقله لا يكاد يصدق الصدمة التي ضربته كالصاعقة مدوية على فرحة مجيء طفله الأول، وما أن فتح الباب ورأى زوجته وهي تحضن بين ذراعياها طفله ملائكي الوجه، ذا العيون الخضراء اللامعة والبريئة، اقترب من كلاهما وهو ممتغص القلب، محاولاً ألا يظهر وجهه المدمر لطفله وزوجته، إلا أنه وما أن لامست يديه يدي طفله حتى هطلت دمعة لترسو على وجه ابنه.
نظرت إليه زوجته متسائلة بإستغراب:" عزيزي، ما بك؟ هل حدث شيء ما؟ هل يوجد خطب؟ اه.... اجبني؟"
ابتسم الأب وهو ينظر الى ابنه الذي أمسك اصبعه بكل يده بشدة مجيباً بوجه محبب للابن:" لا عزيزتي هذه دموع الفرح، أنا فعلا سعيد لكوني أصبحت أباً، لازلت لا أصدق أن هذا الملاك الصغير هو إبني أنا، أنظري إليه كم هو جميل وناعم... ثم دنا من رأس زوجته مقبلاً اياه قائلاً بهمس: شكراً لك، حقاً أشكرك على جلب أجمل هدية لي في هذا العالم، سأسميه مراد، فهو كل شيء أردته من هذه الحياة وتمنيته"، ثم تابع وهو يهمس في أذن طفله الرضيع:" سأكون دعمك الدائم، لن أدع أحد يقلل من شأنك يوماً، أسمعت مراد؟"...
وبعد مرور ست سنوات...
"أمي سأذهب لألعب بالخارج مع أصدقائي هل تسمحين لي بذلك؟؟"
اقتربت منه أمه مدغدغة: "حسناً ولكن انتبه ألا تقع عن كرسيك أو أن تتعانف معهم فتسقط مثل المرة الماضية اتفقنا حبيبي؟ لا أريد أن يصيبك أي مكروه"...
"امم لماذا تعامليني كطفل؟ لقد أصبح عمري ست سنوات كاملة، أنا كبير بما يكفي لألا أسقط، كما أن تحريك هذا الكرسي الكهربائي أسهل من سابقه انظري"...
ضحكت الام وقبلته قائلة: "أجل انت قوي وكبير، حبيبي رجل كبير، هيا اذهب والعب خارجاً ولكن إن احتجت لشيء قم بمناداني فوراً، اتفقنا؟"..
"حسناً امي" ...
وما إن خرج حتى رأى أصدقائه الثلاثة ينتظرونه وهم يلعبون، ثم قال بابتسامة عريضة: "هاي حسان، منير، سائد انظروا إلى كرسيِّ الكهربائي الجديد أصبحت أتحرك بسهولة أكبر بفضله، إنه يتحرك كما أرغب، هذا الكرسي أحضره لي أبي، أوليس رائعاً؟؟"
نظر أصدقائه إليه و تبادلوا النظرات، ثم قال سائد مطالباً اياه:" اوه مراد فعلاً !يبدو كرسيك رائعاً ،ولكن لمَ لا ترينا روعته عن حق وتذهب لجلب قوارير الماء تلك؟ نحن كنا ننتظرك وشعرنا بالعطش لذا ارجوك!"..
نظر مراد إليه وهو سعيد، مجيباً: "أوه لا عليك صديقي سأحضرها حالاً"...
وعند عودته فرحاً بسرعة كرسيه الجديد حتى سمع سائد يقول ساخراً مع البقية:" لا أعلم هل هو أحمق أم انه فقط يريد ان يبقى ملتصقاً بنا؟ مهما حاولنا ابعاده يعود، لا أفهم لمَ لا يبقى في بيته؟"
أكمل حسان مؤيداً: "معك حق فهو كل مره يؤخرنا بسبب عجزه هذا، إما أن ننتظره حتى يلحق بنا أو نلغي اللعبة، المشكلة أن أمه تفرضه علينا لنلعب معه، هذا فعلاً امر مزعج!!"
التف مراد والدموع تملأ عينيه، واضعاً جميع قوارير المياه على الأرض وعائداً بكرسيه إلى أمه، حاملاً قهراً لا يمكن أن يحمله أي طفل في سن السادسة، شعور العجز بدأ يملأ قلبه بقوة بعدها، دخل إلى المنزل، وقال لأمه مسرعاً: "لماذا تفعلين ذلك؟"
هبت أمه نحوه مسرعة لتعلم لمَ يبكي، ثم أمسكت وجهه وحضنته وظلت تطبطب على ظهره ورأسه وسألته: "عزيزي ماذا جرى؟ هل سقطتَ مجدداً أم ماذا؟"
ثم دفعها عنه وهو يبكي قائلاً: "لا لم أقع، أهذا ما تريدينه؟ لا أحبك لمَ أنا هكذا، لمَ أنا الوحيد الغير قادر على المشي بينهم؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ ألم تقولي لي إن كنت ولداً مطيعاً فإني سأُكافأ دوماً؟ورغم أني أطعت كلامك دوماً إلا أني لم امش بعد أنت كاذبة! أنا أريد أن أمشي، أنا أكرهك !"...
وما إن اسرع مراد بكرسيه إلى غرفته حتى انفجرت دموع أمه حسرة على ولدها، ظل قلبها يتقطع على كلامه، اتصلت بزوجها محدثة اياه عما حدث، وما إن عاد الزوج حتى دخل إلى غرفة مراد الذي كان مستلقياً على سريره ودموعه لا تكاد تتوقف عن الانهمار، متوسداً كلتا يداه، نظر والده إليه ثم سأله: "كيف حال بطلي الصغير اليوم؟ ماذا فعلت بنهارك؟ هاي ألن تلتف لتراني، لقد أحضرت لك الرقائق التي تحب.... ألن تقول شيئاً؟؟؟"
ثم اقترب إليه برفق مقبلاً رأسه بكل حب هامساً: "عزيزي ، لا أريدك أن تنظر لنفسك على أنك أقل مما أنت عليه، أنا وأمك نحبك كما أنت، كما تعلم هؤلاء الأطفال سيندمون لأنهم لا يريدون اللعب معك صدقني، هيا ارجوك لنقم ونلعب بألعاب الفيديو كما نفعل دوماً"...
"لا أريد ..." قالها بنفس منقطع من شدة البكاء، ثم أكمل:"أبي أنا أريد أن أمشي ألا يمكنني ذلك؟؟"
عانقه والده من الخلف مجيباً بقلب ممزق:" سأعمل كل جهدي حتى تستطيع لا تقلق، أعدك أني سأظل أتابع الامر إلى أن تقدر"...
بعدها، ظل مراد يحاول أن يقوم عن كرسيه مراراً وتكراراً وكل مرة يسقط فيها عن كرسيه شعور العجز يتملكه أكثر، إلى أن أتى اليوم الذي توقف فيه عن المحاولة بعدها، أصبح حبيس فراشه، فقد اللمعان والحماس الذي كان يملأ عينيه سابقاً، حاول والداه شتى الطرق كسر حاجز النقص الذي حبس مراد نفسه فيه، وهما نفسيهما يشعران بالعجز لعدم قدرتهما على فعل شيء لطفلهما...
أنت تقرأ
الحلم الحر
Short Storyطفل يواجه اعاقة عصيبة مند ولادته ولكن ذلك لا يردعه عن تحقيق حلمه في ان يصبح لاعب كرة سلة عالمي