مِكب الخوف

164 17 20
                                    


الناس بطبيعتهم يخافون الخطأ وترتبك له حواسهم, حتى أنهم يختلقون الكثير من التبريرات لتحاشيه, والبعض ينفق الكثير في سبيل تفاديه, تبرق أعين الناس رهبةً ويرتفع صراخهم إن سقطوا في إحدى حفره.

ومن هنا جمع الخوف تساؤلاته حول الخطأ الذي الصقه الناس به, و جعلهم ينبذونه مما قادهم إلى نبذه هو الأخر من دون قصد , وألقوا به في مكبّ التجارب الفاشلة والتي نتجت عن اخطاء مقصودة أو غير مقصودة وبعضها أخطاء لم يعلموا عنها إلا بعد القيام بها.

خفتَ سراج عينيه وتوسد منتصف عرين الفشل واستلقى يواري دموع عينيه, حاشدًا حيرته في مقلتيه, وما إن أطلت نجمة تائهة في سمائه الخالية وهي تبحث بعينيها في ظلام ذلك المكان الموحش المستقطع من الكرة الأرضية، حتى وقف في سعادة غمرت خديه وكأنه صباح عيده, ولوح لها تتخلل أصابعه البهجة وقال

" مرحبًا يا زهرة السماء, يا سيدة الأفلاك والفضاء"

التفتت إليه في دهشه وبجبين ماطر، وشفتين تنفث زفير الارتباك قالت
" من أنت؟ وأين أنا الأن؟ فجأة غابت عني الأكوان, فماذا يحصل؟"

أنزل يده ودنا بعينيه وتسيد الحزن ملامح وجهه وقال
" أنتِ حيث ترمى الأخطاء التي تبعدك عن النجاح, وتحرق دربك إليه, أنت في مكب الفشل"

أسرعت تسأله في نفاذ صبر تصعّر خدها
"ماذا تعني؟"

قال بابتسامة تصارع حاله علّها تغلبه
" إن هذا المكان المستقذر ليس إلا اخطأ ارتكبها البشر في مناح حياتهم, وعندما لاحظوا نتائجها المؤقتة هسترت عقولهم خوفًا, وذعروا منها وأصبحوا يتفادون ارتكاب الأخطاء؛ فهجروا المكان تدريجيًا وما عادوا يجرون تجارب جديدة, ولا يتخذون خطواتٍ جريئة, حتى ماتت هذه البقعة كما ترين وتعفّنت, وها أنا أتلاشى معها بذنب لم اقترفه"

عندها سألته وقد نالت منها الحيرة حتى أنستها ضياعها
" وما شأنك بهذا؟ هل أنت تجربةٌ تحَامل نبضها على المقاومة؟"

ابتسم مشتاقًا لتعريف بنفسه وابرازها وقال
" أنا الخوف" وأكمل بطيف ابتسامة متلاشي
"استوطنت هذا المكان الذي جعله الناس منفى, ولكن من أنتِ ولماذا أنتِ هنا؟"

أجابته تجمع قطع الأحجية في عقلها وقالت
" أنا نجمة قادمة من المكان الذي رحل إليه الناس, حيث الرتابة ونمط العيش المتسق, حيث أصبحوا يقلدون من سبقوهم بكل اقتناع, وكأن أطباعهم وصمَت دمائهم, الجميع يفر من عبارات المحاولة, كلهم أصبحوا آلات تنسخ ما يجب القيام به وتتخذ منه عقيدةً لها"

قاطعها في شفقة ثنت حاجبيه وضيقت شفتيه
" مالذي جرى لهم؟ كيف صار حالهم هكذا؟"

أجابت مقرّة الحال
" طبعًا فهم هجروا التجديد، والذي غاب آخر شفق له مع هذه التجارب, إن وضعهم يدنوا له القلب"

سألها في لهفة
" ومالذي جرى معك حتى وصلتي إلى هنا؟"

طردت الهواء من صدرها وبكل استياء قالت
" كنت ألمع دائمًا في سماء الأفكار أمام الجميع, فعلت كل ما بيدي حتى يلتقطني أحدهم, ظهرت أمام الأطفال ولكني لم أكن بطعم الحلوى حتى يلتقطوني, ولحت أمام الشباب ولكن جميعهم تجاهلني ولم أنل شرف انتباههم, وأخيرًا وبيأس ظهرت أمام رجلٍ برأس فضي أحمل في راحتي أملًا يحتضر في آخر محاولة, ففوجئت به يلتقطني بشغف ويركض بي نحو مختبره"

في توسع عينيه وشغفٍ في معرفة التالي قال
" وماذا، ماذا بعد؟"

قالت في غرور الذي سيطر على الانتباه
" بدأنا معًا في محاولات كثيرة كي نصل إلى التجربة, وعندما فعلنا..(تمتمت) بائت بالفشل"

فصرخ يحيط أذنه بيده قائلا
"ماذا؟ لم أسمعك"

قالت بشبه صرخة
"بائت بالفشل وأُرسلت إلى هنا"
تمالكت نفسها نوعًا ما ثم أردفت
"ولكنني الأن يا صديقي عرفت مالذي قلب كيان الكون, وجره إلى هذه المصيبة التي كادت تدفنني هنا مع باقي التجارب"

حلقت روحه حول هذه النجمة ترقب ما ستنطقه شفتاها
فقالت
" إنك يا خوف وقعت في المكان الخطأ, وكمعادلة حياتيه, إنك إن رافقت التجارب فشلت وتوقفت حيث هي، وما إن تركتها في حال سبيلها استمرت في المحاولة ونجحت, وما هذا إلا ذنب البشر..."

قاطع كلامها دهشة تملكتها حتى كادت تغشي عليها, فاتبعت دهشتها صرخة حيث قالت
" إن ذلك الرجل العجوز يبحث عني, مؤكدٌ بأنه يريد المحاولة ثانيةً"

سُر داخل خوف لأجلها أن وجدت طريقها, ولكن ذلك زاده رثاءً لحاله فقال بثغر يجابه حزنه
" سعيد لأجلك, عودي إلى حيث تنتمين، عودي واصنعي المزيد من النجاح واسطعي بضوئه فوق هذا المكب"

وبينما كانت تُسحب تجاه اليمين في حركة لولبية قالت
" سننجح ونخرجك من هنا, لن أنسى ما تعلمته منك, سأخبر صديقي ذو الرأس الفضي ألا نخاف الاخفاق أبدًا"

حلقت تلك النجمة وعادت إلى صاحبها ينشدان دروب المحاولة دون كلل, يطردان عنهما اليأس و الملل, وما إن حقق ذلك الباحث العجوز إنجازًا غيّر نمط عيش البشرية, حتى استضيف في الكثير من البرامج والاذاعات, حتى صرخ ينادي
"اياكم والخوف"
وأقام الكثير من الندوات التي حاضر فيها عن الابتعاد عن الخوف أثناء المحاولات إذ أنّ أخطائنا هي ما تخلق مستقبل عالمنا, وما يقودنا للنقطة التالية, فبالخطأ والمحاولة حقق أديسون في الخطوة 1000 اختراع الكهرباء, ولو توقف من الخطوة الأولى ، ومن تابعوا بحثه وقفوا في كل مرة عند الفشل الأول؛ لبقيت الكهرباء في المحاولة الألف من الرجل الألف, وتأخرت عنا كثيرًا.

وسرعان ما أدرك الناس أنهم ظلموا الخوف وألقوه مع الفشل وبدأوا بالتراجع عن ذلك, وتحرر ذلك المسكين من ذلك المكب, وسطعت عليه شمس الأفكار التي غابت عنه منذ زمن, وما إن أشرقت حتى استيقظت الأفكار وطارت إلى سمائها حيث تنتمي, ودارت في أفلاك الفكر وعامت, وما عاد المكب مكبًّا إذ غدى مصنعًا لإعادة تدوير الأفكار.

نُفيَ ظلمًا| ون شوتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن