تفحص المكان بعناية ثم تمتم "لم تتغير ملامح القرية كثيرا رغم مرور خمس سنوات" : لازالت الحمير تقف متجاورة أمام الحنفية العمومية تنتظر تعبئة المياه التي ستُحمل عليها فيما بعد فتصعد بها إلى قمة الجبل في إنهاكٍ و جهد بليغ يزيد من حفر الطريق و تهاطل العرق . تحاول بعض النسوة توفير المياه للشرب فيحملن جرّاتهن و يلتففن خلف الجبل المجاور و يملئنها من العين التي عادةً ما تجف أوقات الحرِّ ثم يعُدن بها محمولةً على الظهر ليوردن الشاتين المعقولتين بعناية في ذاك الكوخ المبني من القصب و الطين فلا يشقين الحمير حتى لا تنفر من الخدمةَ اليومية و لا تنكسر أقدامهم في المسالك الملتوية المملوؤة حصًا .
تظهر له "النوَّالة" من بعيد وهي من الأكواخ المخصصة لخبز العجين و طبخه على النار التي يأتي الأهالي بحطَبها من الغابة البعيدة . إنّه يكره تلك الغابة كثيرا بل يمقتها ...لقد كانت سببا في وفاة ابن خاله و صديقه "أحمد" : يذكر جيدا ذلك اليوم الذي تعالت فيه صيحات أمه و ما سكتت البتة ففي كل يوم جمعة أو عيد أو مناسبة تستأنف زوجة خاله يومها بنواح يقضُّ مضجع الجيران ويوقظ الشيوخ المرضى. و استمر عادتها هذه إلى أن ولد أخو المرحوم ولدا سمّاه أحمد .
قيل أن أحمد مات بعد أن بلغ في يوم من أيام أغسطس الحارة أطرَفَ الغابة لكي يجمع الحطب لوالدته فلما عاد أدراجه كبَّ على رأسه سطلا من الماء البارد فسقط في ليلتها يتخبط فحملوه الرجال مسرعين إلى النقل الريفي ومن ثمة إلى المستشفى حيث قضى نحبه و ارتقت روحه وهو في سن الخامسة و العشرين ... يذكر جيدا اللحظة التي اقترب فيها منه و كشف عن وجهه المكفن و لمسَ بيد مرتعشة جثته الهامدة ثم انهار باكيا فرمقه الرجال بعين مزدرية ترفض بكاء الرجل و تعتبره من أمور النساء . كان أحمد الصديق العزيز على قلبه و بمجرد رحيله ازداد كرهه لتلك الغابة و لهذه القرية التعيسة و بات العيش فيها من المنغصات القاهرة له .....
بلغ "راس الصعدة " وهو القطر الذي يستطيع المرء النظر منه للقرية كلها دون عناء واستوقفه منظر الشجرة التي يسمونها شجرة "أمنا هنية" و التي عرّى الجفاف بعض جذورها فمالت مع الجبل و لكنها ما سقطت إلى حدّ الآن و كثُر فيها القيل و القال فهي شجرة مباركة بل هي ليست كبقية الشجر ، إنها روح الأم هنية التي ماتت فوق ناقتها و دفنوها أهلها أين بركت بها أي بجانب "راس الصعدة" و بعد أيام انشق قبرها و خرجت منه تلك الشجرة المباركة فهي من الأولياء الصالحين و منذ تلك الحادثة التي لم يشهدها أحد من أهالي القرية و توارثوا قصتها من الأجداد باتت زيارتها من السنن خاصة في وقت الشدة و الحزن إذ يشعل الزائر شمعة بجانب مجموعة من الحجارة المسيِّجة لها ترحما على روح "الأم هنية" و يقرأ الفاتحة ثم يخضب غصنا من أغصان الشجرة بالحنة و يربط خيطا فيها و يدعو دعوته ...و لطالما اشتدت حيرته و أسئلته عن كيفية مشي ناقة الأم هنية في هذا المكان الوعر و سبب موتها فوقها و كيف يمتلك أحدهم ناقة في هذا المكان الفقير و لماذا يملكها أصلا؟ ..ثم اطمئن لتفاهة العادة بعد ذلك و اكتفى بالسخرية ممّن يضعون واسطة بينهم و بين الإله بعد حروب شنّها حبيبهم محمد و غيره من الرسل للتخلص من الوثنية و مشتقاتها .
أطلق ابتسامة ساخرة و استأنف مشيه و تأمله . هاهو الآن في "الصفحة" : المكان الذي اعتبره من أجمل بقاع الله . لم يحاول أحد قط التفكُّر في سبب تسميته بالصفحة بل توارثوا الاسم تماما كما توارثوا قصة الولية الصالحة . لقد كانت شبيهةً كلّ الشبه بصفحتين يتوسطان كتابا ما يفرقهما مسلك نحيف في حين اخضرت دفّتاهما بمئات من الصبار الشوكي التي يجمع مالكوه ثمره أيام القطاف بعد التعود على وخزات شوكه الدقيق ثم يبيعونه في المدن . وكثيرا ما كان جمع سطل من التين الشوكي وأكله على الرمق مع الخبز الناضج لتوّه من عاداته التي افتقدها كثيرا في الغربة خاصة في شهر رمضان الذي كان يجمع فيه عوض السطلين ثلاثة كي يُبقي واحدا لوقت السَّحر ثم ينعم به مع كأس لبن ناضج تمّ حلبه من صدر بقرة مرضعةٍ قبل الإفطار و مخضه في "شكوةٍ" مصنوعة من جلد الماعز ثم استصفاء زبدته ووضعها على حدى .
تنهد و أعلن" ما أشهى طعام الريف" ...إنه يجعله لا يشعر بجوع أو عطش في شهر الصيام رغم الحر الشديد .
أكمل طريقه نحو بيتهم و اعترضته أمه في مليتها التقليدية التي عادةً ما تفوح منها رائحة الاكليل و قد ازدان وجهها المحمر بابتسامة واسعة سائلة " هل استمتعت بنزهتك هذه تاركا أمك العجوز لوحدها؟"
" ها قد عدت إليكي مجددا " ابتسم و قبّل رأسها معاتبا لشدة شوقها ثم ولّى وجهه شطر اليمين لتختفي ملامح ابتسامته فجأة بعد أن لمح ابنة العام قادمة : لا تزال كما هي : تطوق شعرها بحجاب لا دين له فهو مجرد شعار عن الطهارة و السلامة من كل رجس خبيث. تُخفي قامتها الممشوقة بقميص طويل خفيف لطالما عكفت صبايا الريف على ارتداء ما يماثله لستر مفاتنهن و ابراز حيائهن الدائم . ترتدي حذاءً باليا طال عمره و يُحتمل أن تكون قد ورثته . تحمل على ظهرها جرة المياه الثقيلة مما حصر صدرها و سحب حجابها إلى الخلف فبانت فلقة من القمر ازدانت بخدين مشربتين بحمرة تتوسطهما شفتان أشبه بحبات العنب الأحمر المُسكر .
شقت أمه سلسلة أفكاره فوشوشت بالقرب منه " سلّم على ابنة عمك يا بني ، مابالك تقف مبهورا ، لو رآك أبوك على هذه الحالة لكسر عكازه على ظهرك "
لم تهتم البنت لصدمته البتة فهي قد سمعت بخبر رجوعه للقرية و علمت أنها ستراه عندما تأخذ الماء لبيت عمها الذي ما عاد قادرا لا هو ولا زوجته على حمل تلك الجرة الثقيلة فظلّت تحملها عنهم مذ أن سافر ابنهما البكر الوحيد . ولما مدّ يديه كي يصافحها بعُجالة رمقته بنظرة حادة ثم وضعت الجرة بعنف حاولت أن تُبرز عدم قصدها و صافحته في شيء من الكبرياء و الخُيلاء.
وبمجرد أن صافحها تذكرتلك اللمسة ، اللمسة الأولى التي أنضجت شهوته و خلقت منه رجلا . كانت بحرا سخيا من العاطفة كلما زاد التعمق فيه زاد تعلقه بالحياة . يذكر جيدا تلك الأيام التي يختلق فيها القصص ليتحدث معها أثناء رعيها للغنم ، كانت فرصة اللقاء بها صعبة إذ تطول و تمتد أيام عيشه في المبيت المدرسي إلى أن يمُنُّ عليه الزمن بعطلة يقابلها فيها .
كانت فتاته الأولى في الصغر و عذابه الأخير في الكبر . نضج بين يديها و تعلم فنون الحياة أمام ابتسامتها . توفي والدها وهي رضيعة لم تبزغ أسنانها بعد إذ جرفه سيل العين التي انفجرت بسبب الأمطار الغزيرة فوُجدت جثته عارية تدثّرها الجروح .ولقد ذاقت من بعده ألوانا من الفقر حتى أنها ما دخلت للمدارس قط و ما استطاعت تعلم الحروف الأبجدية إلا على يده .
كان يستمتع عند خطِّ اسمها على التراب وفصل حروفه ثم جمعها لتنطق بها حرفا حرفا متعثرة كطفل صغير يتعلم بين يدي والده. وكثيرا ما يفسر لها نظريات الفلاسفة ويخبرها أن جمالها ميتافيزيقي تعجز الواقعية عن الإتيان بمثله فتخجل و تدّعي ضرورة لحاقها بخرفانها النحيلة لردهم عن الفرار فيقبع مبتسما يلمحها من مكانه وقد ذاب فكره في عالم المثل وهو يستعين بمرفقيه لسند رأسه متكئا على صخرة عظيمة كما لو كان سقراط يعلم تلامذته . فإن أراد أن يجذب أطراف الحديث مجددا قصَّ عليها روايات جبرا التي لطالما اعتبره رائد الأدب العربي و كثيرا ما كان يشعر أنه انفعل أكثر من اللازم عند مقارنته بطه حسين الذي يمقته شر المقت لركاكة ألفاظه و أفكاره التي يظن أنه يريد بها أن يسعى وراء حب الظهور بالطعن في كل ماهو عتيق قديم . يحدثها تارة عن لميعة و عن وليد مسعود و يتعمق طورا في تحليل صورة الدكتور محمود في رواية السفينة و يقارنها بشخصيته و يسافر بها ليحدثها عن مجنون ليلى و عن مجون أبي نواس و عن أفكار فلاسفة الأنوار المسروقة و عن النساء اللاتي دافع عنهن نجيب محفوظ في رواياته و عن شهرزاد التي نجت من الموت بسبب خصوبة خيالها وعن نظرية داروين و علاقة الوجود بالقردة فتنبهر هي بأحاديثه و تتحول إلى تمثال ساكن ينصت بتمعن إلى أحاديثه العجيبة فإن تعمق أحيانا في فكرة وجود الله واجهته بالغضب والصوم عن الكلام إلى أن يقر بوحدانيته ووجوده مرة أخرى.
لقد كانت الإيمان الأول في حياته ...
يتذكر جيدا ذاك اليوم الذي لمس فيه يدها فدبّت فيه قشعريرة و كان البعثُ . لقد بحث جاهدا عن تلك القشعريرة في الغربة فما وجدها قط ...
ارتفعت الزغاريد يوما تعلن نجاحه وتفوقه الذي تُوِّج بمنحة ظلت حديث الناس لسنوات فهو الذي عجزت والدته عن النطق باسم المدينة الجديدة التي يقطن بها فاكتفت بذكر كلمة "أمريكا" ثم تحدثت مفتخرة عن استعداد ابنها لزيارة القمر فهو الذي قد تأتيه "النازا" بمال قارون كي يمنحها بعضا من خيرات عقله العبقري ...إنه موسوعة لا تبقي من الأدب و العلوم شيئا.
لطالما ظن في البداية أن حبيبته ستبقى درة مصونة تنتظره حتى يعود لكنه سرعان ماوجد نفسه تغرق في عالمها الجديد و تُطبق على ماضيها البعيد فأنّى لولد في زهرة شبابه أن يفكر براعية الغنم و قد رأى مؤخرات بنات أمريكا تعتصرها "التنورات" الحريرية و تزين سيقانهن الكعوب العالية المثيرة ؟
شعُر بالنشوة للوهلة الأولى فأخذ يدلل نفسه بممارسة الحب مع هذه وتلك حتى وجد نفسه قد جامع البيضاء و السمراء و الطويلة و القصيرة و صاحبة الشعر المجعد و الشقراء البدينة و أخرى نحيفة و المثقفة و المتحررة و الطيبة و الشريرة و المطلقة و العذراء و اللطيفة ولكنه ما وجد تلك القشعريرة قط . كان في كل مرة يلمس فيها يد إحداهن يبحث عنها فلا يجدها فيمارس عمله كآلة تحاول التخلص من شيء فتعجز عن ذلك ..... إنها الذاكرة الحمقاء .
تنفس الصعداء وكاد يبكي بمجرد أن صافحته ودبّت تلك القشعريرة في جسده و انهارت الأحداث الماضية أمامه ... وقف مبهورا يحاول التماسك فلا يقوى على ذلك . ولمّا رأى خيالها يختفي ذرف عبرةً فضحت رغبته الشديدة في استيقافها كما لو كان طفلا صغيرا يبعدونه عن أمه ولكنها اضمحلت بسرعة تاركة شرخا عميقا في ذاكرته .

أنت تقرأ
ابنة العم
Romanceالكل يحتقر أفلاطون و نظريته والكل سيصدق بثبوتها و جماليتها ما إن تأملوا جمالك هذا .سبحانك ربي ، إنك المرأة التي لا أستطيع العيش دونها . أقسم لك أنني على أتم الاستعداد لآتيك بنهر دجلة و الفرات إن عفوت عني و غفرت لمراهق فُتحت له أبواب الدنيا وهو صغير...