•• لا زال يتذكر ••

476 73 96
                                    

إهداء إلى؛
الهادئين المنعزلين ، الذين لا يجيدون التحدث مع الغرباء.

"ليست البهجة في الأشياء، بل فينا نحن."
- ريتشارد فاغنر

______________

تَرجلْ من سيارة الأجرة بعد أن دفع الثمن للسائق، وتقدم تجاه ذلك المنزل الصغير والذي يحيطه سياج حديدي قد صدئ نصفه.
كان منزلاً مصنوعًا من الآجر الأحمر بنوافذ عالية مفعمة بالغبار، وقد نال منها الزمان لجعلها باهتة مهترئة.

تنفس الصعداء وهو يعمل النظر بتلكَ الحديقة التي لم تَعد كسابق عهدها، غدتْ كمقبرة بيداء، جذوع أشجارها يابسٌ جفيف، ولم تعد تلك النخلة مستقيمة وشامخة بفروعها بل صارت كعجوزٍ أحدب، مائل الجذع.

تقدم بخطواتٍ متأنية كما لو أنه يخشى الوصول إلى الباب، يخشى أن يواجه ذكرياته بهذا المنزل العتيق، ولوهلة توقف مترددًا يراجع أفكاره، فلعله يعود أدراجه مزيحًا تلكَ الفكرة التي طرأت عليه فجأة بعد أن طُرد من شقته لتأخره في دفع النقود للمالك .

مرت دقائق معدودة وهو يصارع نفسه تحت شمس النهار الصائفة، حتى عزم الأمور وخطى خطوته متقدمًا بشجاعة.

كان لا يزال يتذكر أين وِضع أخاه عماد مفتاح الباب رغم مرور عشرون سنة على تلكَ الحادثة، وقد وضعه أسفل السجاد قرب الباب، حتى أنه تذكر حين صاحت أخته رغد قائلة:
«هذه حركة متداولة، سيسرقنا المجرمون!»

لكن عماد ألمجمها بالصمت حين صرخ بها «وكأننا سنعود!»

وقف أمام الباب متحيرًا، وعاد ليأخذ شهيقًا ويزفره بحدة.
أخفض من قامته، ودس يديه أدنى السجاد، وكان من حُسن الحظ أنه لا يزال موجودًا.

اتسخت يداه بالغبار الفائض، ولم يأبه سوى بسلسلة المفاتيح التي بين يديه.
لوهلة ابتسم قليلاً حين رأى ذلك المفتاح المميز عن البقية، حيث أنه قد مُيز ببقعة حمراء من طلاء أظافر قد دهنته أخته هيفاء بعد أن ذاقت ذرعًا من تشابه المفاتيح.

كان متأكدًا في قرارة نفسه أن الباب لا يحتاج مفتاحًا ليُفتح، بمجرد دفعة بسيطة قادرة على تحطيمه كليًا، فهوَ بالكاد ما زال مستقيمًا.
لكنه لم يرد ذلك، أراد أن يدخل المنزل كما اعتاد أن يدخله في السنوات الماضية، أن يشعر بأن شيئًا لم يتغير رغم الفرق السحيق.

فغَرَهُ رويدًا، وداهمته الأتربة التي أزاحها الباب،
«هذا المكان الآمد بالذكريات!» كانت تلكَ أول جملة خطرت بباله حين أنافت له معالم الصالة المغطاة بالغبار.

لا زال يتذكرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن