" رنْد، لين، حُسين "
تمتمتُ وأنَا أستَفيقُ مِن سهَادي، ما لبثتُ حتّى اكفَهرّت تقاسيمُ وجْهي، فقدْ لسعَني الواقعُ لسعةَ الهجرِ، هجرُ الأشلاءِ، يدكُ الخَاطر و الفؤاد .
استَقمتُ لأتناوَل جرعةَ العلاجِ الّتي يُحتمُ عليّ تناولها وإلّا احتَضنتُ السريرَ كتنبيهٍ لقدومِ الأجل .
تهدّجتُ مُستعينةً بعكازتِي الّتي كانَت بديلًا لأيدِي المُعاضدِةِ الوهمِية .
خطُواتٌ تسَربلت بالبطءِ، وقد تناثرَ الثّلجُ فوقَ شعْرِي الذِي تساقطَ برفقةِ الآمالِ الهشّة التيْ بنيتُها في يوم عاصفٍ، وسكَنت التجاعيدُ وجهي .
تقدمتُ من نافذةٍ تغذَت عليْها حبيباتُ الثّرى و نصَبت العناكبُ مساكِنها بالقُربِ منها .
بحلقتُ في تلكَ النّباتاتِ التي ماتَت، المكانُ يفتقرُ الحياةَ، قبلَ عقدٍ ونصفٍ، كانَوا هُنا .
يُلاعِبونَ بتيلاتِ الزّهرِ الخلّابة، يَستنَشِقون عبقَها الأخّاذ .
يَلعبونَ الغُمّيضةَ سويًّا، لاُنصتَ للينٍ وهي تتهمُ حسين بكونهُ فتحَ عينهُ، بينَما رندٌ تَلعبُ مع الببغاءِ خاصَتها .
أحلّ لهُم واجباتِهِم، واخوضُ رعبَ الإمتحانِ بدلًا عنهم، فأَنا من تبقى لهُم بعد والدهمْ رحمهُ الله .
يتأَلمُون بلا نشيجٍ، فتتكورُ الدّموعُ في عَيني .
يَحزنونَ، فيستقرُ الألمُ في داخِلي .
يَتخاصَمون، فأحزنُ أنَا .
أذكرُ أنّهم حين كانَوا في الإبتدائيةِ، كَانت حالتُنا الماديةُ في تدهورٍ بعد وفاة زوجي.
على سُفرةِ العشاء، كانَت رنْد تمررُ لي خبزَتها العتيقة، وكوبُ الحساءِ الذي بالكَادِ يكادُ يكفيها، لتَقول ككل يومٍ
" أمّي، كُلي، أنَا لستُ جائعةً "
فأكذبُ بكونِي قد تناولتُ الطّعام قبلَ مدةٍ، وحينَ يخلدون للنومِ، أجمعُ ما تبقى من الفتاتِ الخاص بالخبز لأتناولهُ مع كوب حليبٍ .
تسْرقُني السّاعاتُ على مقعدِي الخشّبي، أحيكُ مراسمَ أحزاني .
أجُوب السّوق لأبتاعَ الخضارَ، والخُبزَ، و السّكر، بعضَ الدّقيق، وما يحُبه الصّغار .
أُطرزَ هندامَهم بينَ أنامِلي المُرتعشة، فتدخلُ الإبرةُ في يدِي بين فينةٍ وأُخرى، أحيكُ لهُم بخيوطٍ حبّي الأثيريةِ .
وإبرةُ الحنانِ تخترقُ جوفِي في لحظاتِ السّهو، تقتبسُ بعضَ الحنانِ منّي .
أُمسدُ عَلى شعرِهم ليلًا، أُغنّي لهم تهويدةَ ما قبلَ النّوم، ينامُون، غافِلين عن أمّهم التي تنامُ الدّموع فوقَ تجاعيدِ وجهها .
أُعدّ لهم الكَماداتِ حين يُصابون بالمَرض، فأعيشُ لوعةَ المرضِ، وألمهُ، ضنكهُ .
أَعدّ مصروفَ المنزلِ، إيجارَ المنزلِ، تكاليفَ الدّراسةِ، مصروفَ البيت، فأغرقُ في الحيرة، وينتشلنِي منها حسينٌ وهو يكفكفُ دموعي .
كان المنزلُ يضجّ بمقوماتِ الحياة، زقزقاتُ العصافيرِ، ضحكاتُ البراءةِ .
الابتساماتُ البريئةُ، البَساطةُ الخلّابة .
أمّا الآن، فلا يطرقُ بابِي، سوَى تلكَ الزوبعةُ القارسة .
لَا تزورُني، سوى ذكْراهُم، لا يَذكُرني أحَدهم، أُجهزُ سفرةً لأربعِ أشخاصٍ، فأنْسى أنني بتتُ وحيدةً .
سَاعِي البريدِ لا يدقُ بابِي، الجرسُ باتَ بلا أدْنى فائِدة .
فأَحنّ إلَيهم، أحنّ لأَن أعودَ أُمًا تُجهزُ أولادَها للذهابِ ناحيةَ المَدرسة، تعدّ لهم وجبةً مليئةً بالحُبّ .
تُوبخُهم لقطعِ شارِعٍ يكتضُ بالسيّاراتِ، يتَمسكونَ بيدِها عند الخَوفِ .
تُشاهدُ نجَاحهم الّذي تشعرُ بكونهِ نجاحَها، ترى البَسمةَ على ثَغرهم، فتبتسمُ .
تُقبلُهم قبلةَ ما قبلَ النّوم .
أذكرُ تلكَ الذّكرى، حينَ كبِروا دونَ أن أُدرك، تخَطُوا طُفولتهُم الّتي لا زلتُ أشعرُ كونَهم فيها .
يومَها كانَ العيدُ على قابِ قوْسين أوْ أدْنى، ذهَبوا لابتياعِ هندامِ العيدِ، اغدَقتُهم بقبلاتي قبلَ خروجهم .
ذهبوا لَيبتاعوا هندامًا، عادُوا وهم يتأزَرون بالكفنِ الأبيضِ .
ومنذُ يومِها، بتتُ منسيةً في طيّات التّأريخِ، نسانِي الأحِبّاء، المقربوْن، حتّى نسَيتُ ذاتي، أنا أمُ الشّهداء .
أنَا التي تُخيطُ ما ينفتقُ، وترفعُ ما ينهدمُ من أولادِها، لمْ تعُد تجد يدًا ترفعها.
مرّت قرابةُ السّنتينِ، على تلكَ الذكرى،
" إنْفجار الكرّادة "
___________
بمُناسبة مرور سنَتين على انفجار الكرّادة، حبيت احيي ذكرْاهم بقصة من خيالي💜 .
و حبيتها صراحة وجنت اتبكبك من سويتها💜 .آرائكم؟
أنت تقرأ
هجْرُ الأَشْلَاءِ | Leave the parts of us | ون شوت [✓]
Short Storyكَلّموا أوْلَئك الحمقَى، قُولوا لهُم أنّ الرّياح طرقت بابَهَا، وَهُم لمْ يَفعلُوا . ___________ ▪مَعَ توقيعِ الحَوادثِ المُكرَرة . ▪ تَنهيدةٌ صامتة .