يا آنسة .. المدير يطلبك !!

53 5 4
                                    

      ليست المرة الأولى التي يأتي بها العم راشد ذو الستين عاما لمكتبي.
وليست المرة الأولى التي يطلبني بها المدير .
وحتمًا ليست هي المرة الأولى التي أسمع بها أصوات الموظفين تختلط بأصوات حفيف الورق والنقر على لوحة المفاتيح ...

      لكنها حتمًا المرة الأولى التي استشعر في صوت العم الكهل شيئًا من النذير .
والمرة الأولى التي يبدو فيها طلب المدير لي كانتظار حكمٍ خطير .
وهي المرة الأولى التي تبدو فيها أصوات الموظفين كجدلٍ خافتٍ حول مصيري .

     تبًا للـ( المرة الأولى ) ..
للمرة الأولى حاولت أن أكون ككل الآخرين.
فماذا يعني أن أفكر بأن يقتات جيبي بالفتات اليسير من تلك الأموال المهدورة أصلاً في الوزارة.
لِمَ أعتبر الأمر مخالفًا للمألوف؟ وأي مألوف؟ رئيس القسم يضع القليل ، والمدير بنفسه يضع أكثر قليلًا من القليل ..

ألم أقل لنفسي حينها وأين الخلل ؟ أليس الوزير بنفسه أيضًا يضع حفنةً كبيرةً من هذا (القليل) في جيبه؟

(المدير يطلبك) .. أكمل الجملة يا عم راشد .. (المدير يطلبك .. لينفذ حكم الإعدام ..)

     طبعا ، فهو المدير وليس منا الشجاع من يجرؤ على محاسبته؟ لابأس أن يعمل قليلًا لحسابه الخاص، لكن ؛حين يفكر موظف بالحذو حذوه .. يصبح (مختلسًا) ويجب أن يصدر بحقه أشد عقابٍ ليكون (عبرةً) لمن يعتبر .

     كان عقلي يحترق وأنا أفكر فقط بماذا أدافع عن نفسي .. كل خطوةٍ كانت تحمل معها الآلاف من الأفكار (هل ألبسُ قناع البراءة والمظلومية؟ لم أكن أنا .. حتما هناك خطأ في الموضوع ،سجلي معكم نظيفٌ تمامًا والأوراقُ تشهد. هل أتدثر بحلة الندم؟ لاتدرك حجم أسفي يا سيدي ،كانت لحظةً (ضحك علي الشيطان فيها) لم أكن بوعيي، أعاني ظروفًا سيئةً في البيت هي التي دفعتني لأقترف ما اقترفته) .

     أم أجد في داخلي الجرأة لأنفض عني رداء الهدوء والحياء ؟ وأواجهه كلبوةٍ مفترسةٍ بكل عينٍ وقحةٍ وأخبره بأنني لم آتِ بجرمٍ أفظع من جرمه ،وإن أراد معاقبتي فسأنشر غسيله القذر في كل مكان ، وإن كان مشككًا ليتحداني لأريه ما أستطيع فعله ..

     أي الخيارات سآخذ ... لاأستطيع اتخاذ القرار، رجلاي الخائنتان وصلتا بي بسرعةٍ لبابه، يدي ترتفع لتدق آخر إسفين في نعشي، توقفي أيتها الحمقاء .. مايزال عقلي يحاول الوصول لحل ، جسدي يعبر تلك المساحة التي كانت -حتى لحظاتٍ- بابًا مغلقًا..

     حانت ساعة الحساب، المدير ينظر في تلك الأوراق بين يديه مدققا ليسقط المقصلة فوق رأسي، سأعترف .. ليكن ما يكون. سأعترف وأطلب منه الصفح والستر، وسأهدر من الدموع أنهارًا وحتمًا سيشفق علي .. فقط علي بالمبادرة لأكسب هذه الورقة ..

     ازدردت ريقي بصوت كان كفيلا بأن يجعل المدير أخيرًا يرفع عينيه إلي ،فتحت فمي لأنطق ، وقبل أن يعبر الهواء حنجرتي التقطت أذناي صوته عبر الأثير :
-         مبارك يا آنسة ، تمت ترقيتك لمديرة قسم الحسابات .. تستحقين هذه الترقية وأنت أهلٌ لها .

وفي هذه اللحظة (للمرة الأولى) أتبادل مع المدير تلك الابتسامة الخبيثة ..
عفوًا ..
أقصد ابتسامة التفاهم التي تبشر بمرات ومرات أخرى يطلبني بها المدير..

قصص سقطت من ليالي شهرزاد..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن