أما زلت تقرأ؟

19 2 4
                                    

     لم تكن الطرقات المضيئة تناسبه، كان يعتبر نفسه وحشًا لا تلائمه إلا الأزقة الخلفية، الإضاءات الخافتة، والأراضي الرطبة. رفع ياقة معطفه ليغرق ملامحه في ظلمة الظلال، وشد طرفيه ليحكم إخفاء تلك اللفافة المحمية بجوار خصره ، لم يكن حصوله عليها سهلًا ، وقطعًا لن يكون التفريط بها أسهل .

     ليته يعود بالزمن لسنةٍ مضت، فقط لسنةٍ واحدة، كان ليحرك رأسه رافضًا بدل أن يومئ موافقًا لذاك الصاحب المأفون حين راوده عن نفسه مقدمًا له حبة الدواء تلك حتى تخفف أعراض الرشح لديه ..

     تقوس فمه للأعلى ساخرًا .. تخفف أعراض الرشح لديه؟ من يومها والرشح أصبح كرفة العين لايفارقه...  من يومها و مرآته تصرخ به بحقيقة ما أصبح عليه .

     توقف للحظةٍ  وأخفض رأسه أكثر يفكر، إلى أين سينتهي؟ في إحدى هذه الأزقة ميتًا بجرعةٍ زائدةٍ؟ أم مزجوجًا بالسجن بتهمة التعاطي؟ يا ترى كم بقي له من أيامٍ في هذا الدرك؟ مط شفته وخالف رغبته بالإنكسار رافعًا رأسه باستحياءٍ للأعلى تاركًا الحرية لقطرات المطر لتمارس الحب مع دموعه وتريحه .. لِمَ يفكر في المستقبل ؟ من هو بمثل وضعه الأفضل له أن يعيش في الماضي .. الماضي حين كان له مستقبلٌ يتأمل به ، حين كانت ( هدى ) ترافقه نحوه ، ( هدى) مرح الطفولة ، وإعجاب المراهقة وعشق الرجولة .. توأم الروح ونبض القلب، كانت دومًا تلك المشاغبة الصغيرة حين تصيح به ( اترك دراستك وألعب معي )، لتكبر أمامه، وتصبح الصبية المرحة فتداعبه ( يا دودة الكتب .. أترك كتابك وصاحبني للدكان لتحمل عني أغراضًا تريدها أمي) ، ويطوعها بين يديه فتاة ناضجة الحنايا والخبايا تجلس أمامه بنعومة واستحياء وتحادثه برقة : (أما زلت تقرأ لوحدك؟ أخبرني ماذا تقرأ ودعني أشاركك أفكارك) .

     (هدى) لم يكن يعرف أن خلف الواجهة الناعمة لفتاته ، هناك جرأةٌ أثمرتها العشرة وعنف جراء الصدمة، صرخت به قبل ست شهور في محاولةٍ أخيرةٍ يائسةٍ لاسترداده ( عد لوعيك يا رجل .. أترك بلادتك وكن كما عرفتك وأجبني .. أما زلت تقرأ) ؟

     (أما زلت تقرأ؟ أما زلت تقرأ؟ أما زلت تقرأ؟) ظل هذا السؤال يدوي في أذنه وهو يحث خطاه مسرعًا نحو هدفه ، يجب أن يعود لملجئه مهما كلف الأمر، يجب أن يفتح تلك اللفافة بأقصى سرعةٍ ويتعاطى مافيها قبل أن يفقد رشده للأبد ..

     أخيرًا .. وصل، وبأصبعٍ مرتعشٍ دق الجرس بصورةٍ متواصلةٍ .. سمع الخطى تقترب من الباب ،   وانحسر كاشفًا عن وجهٍ يألفه .. دلف من تلك الفتحة مدفوعاً بقوة الرغبة .. الرغبة بالحياة ، و صرخ في وجه زوجته : بلى.. بلى .. مازلت أقرأ .. ما زلت أقرأ إقرئي معي و أقرئيني وشاركيني أفكاري ..)

     و في خضم كلامه انتزع تلك اللفافة الثمينة من جيب معطفه ومزق كيسها مادًا لها بالمصحف نحوها : (أرأيتِ؟ قرأت .. قرأت .. ( إهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) ، قرأتها وأريد العودة يا (هدى) أريد أن أعود للصراط المستقيم) .

     كانت ابتسامة (هدى) كفيلةً لجعله يغمض عينيه براحةٍ، متيقنًا أنه على أولى عتبات العودة، وهو يفكر بالقدر الذي جعل موزع المخدرات يختار أن يسلمه الطلب في المكتبة بين أرفف الكتب بعيدًا عن كل تلك الأماكن المشبوهة ، فيستلم النقود من رفٍ ليترك له لفافته على الرف الآخر، بجوار المصحف تماما ، كتاب الله الذي لم يكن يفارقه ليلة، فهجره لتهجره الراحة .. ترك اللفافة مكانها وخرج بما هو أفضل وسؤال (هدى) يتردد صداه (أما زلت تقرأ ؟)

بقلمي/ وفاء

أرجو أن تشرفوني بتصويتكم وتعليقاتكم

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 09, 2018 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قصص سقطت من ليالي شهرزاد..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن