لم تكُن بدايتي الأولى تحمِل معنى السلام، الحرية، ولم يكن من العاقل أن يشنق الجماد نفسه، بل كل ما يحتاج لهدم شموخي الأسود، وسرابي الشاحب الواقع بين شطري الرأس مالية والاشتراكية، هو اتحاد الشرق والغرب.
-في الثالث عشر من أغسطس 1961م
شحوب غطى أرضَ مولدي في لحظاتي الأولى، نظراتي القاصرة كطفلٍ صغير لم تُدرك هذا الشحوبْ والشُئم الأول، كنتُ أنا منذُ البداية رمزًا لكتم الحرية والقمع لا يمكن إبادته، نظراتي الأولى الناعمة والبريئة لم تدرك أنني خطيئة ستحمل جفونها وترقد بينَ رموزِ التاريخ.
بعد مرورِ الشهور علت مخالبي، وزادَ رونقي بين الشطرين، توسعتْ رؤيتي التي لم تعد قاصرة بعد الآن، لم يغب عني، وفي لحظات إدراكي الأكبر سؤال يشغل ذرات مكوناتي:
هل كانت خطايا فالتر أولبريشت تتمحور حول بناء جدار يفرق شرق ألمانيا الاشتراكية، عن غربها الرأسمالي بعد هرب الكثير من الشرق للغرب؟
أم أنها تتمحور حول خطيئتين أولها: بنائي، وثانيها: تسببه بتخلل مشاعر الذنب والوحدة الموحشة داخلي، عوضًا عن نبض البشر ودماؤهم على جدراني إثرَ محاولات عديدة للهرب...
أعتقد أنهُما خطيئتين، على الأقل بالنسبة لجدار مسكين مثلي.-لم أحقق الغرض مني جيدًا، فكانت محاولات الهرب قائمة، بعضهم يفقد حياته من طلقات رصاص أو غرق.
كنت عاجزًا حقًا عن فهم أسباب تدفعهم للتضحية في سبيل الهرب، هل بسبب تفرق عائلاتهم بين الغرب والشرق؟ أم بسبب الرفاهية وارتفاع الأجور في ألمانيا الغربية؟ هل كانت الرأسمالية على الجانب الآخر محط لجذب الانتباه والإغراء؟على أعتاب الحرب الباردة وضِعَت أركاني وكنتُ مدركًا لذلك، فربطًا للموضع كانت محاولات الهرب التي تعدت المليوني من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، تسببت بضعف الاقتصاد السوفيتي، فكان الأغلبية المتعلمة قدْ ولت ويجب وضع حل لهذه المشكلة التي أدت لاهتزاز الاقتصاد السوفيتي، أرسى حل هذه المشكلة وضع كياني في الفراغ أو هذا ما لقبت به موضعي، بين الغرب والشرق، بين اللامكان، كنت أنا أقف شامخًا!
بين الفينة والأخرى كانت تنتابني الكثير من الهواجس، هل أنا حقًا أتمنى موتي؟ هل أنتظر أن يفيق شعب ألمانيا المنقسم لتفنى لعنتي وسوداويتي؟
لكن رغبة الجماد بالانتحار لا تفيد شيئًا وهي رغبة غير محققة، كنت حساسًا حقًا، أقحمت ضميري وتهشماتي بجانب صراعات البشر، هم السبب دائمًا ونحن الجدران كنا دائمًا رمزًا للسبب.
الرياح في بعض الأيام تتنهد عني وعن بعض الأشواك فوق جدراني، عندما تقوى قليلًا أعرف أنها تشعر بآلامي وتريد مساعدتي على الوقوع والموت، حتى الأمطار كانت تحاول تهشيم أحجاري ولكن لا جدوى، بدى أمر إيقاعي محالًا.
كان في رأيي وقتها أنني شامخ بطريقة مبهرة، أنه لم يكن هناك طريقة لإبعادي، كنت محاطًا بالحراسة، ومحصنًا بقوة، حتى فكرة اتحاد الشعب كانت تتلاشى مع الأيام.
لم أعرف ولم تدلني نظراتي على الكثير، كنت مدركًا أن حرب خفية كانت منفتحة على مصرعيها، وأن هناك شعوب تائهة مثلي تمامًا، وخاصة شعب مولدي، شعب ألمانيا المنفصل كتلقيب ألقيته عليه بعد انهيار النازية وانقسامة.المصطلحات كانت كثيرة وإدراكي كان متوسعًا في ذلك الوقت، لقد شخت والحكمة التبست آرائي، لم أعرف لمن أميل، ولمن أنحني، من الأقوى ومن الأضعف؟ لم أتمكن من معرفة الأمر يومًا، رغم معرفتي الواسعة لم أفهم الغرض، ولكن بالتفكير قليلًا، فقد أضع استنتاجًا؛ بأن المال والملكية الخاصة، تسويق الأموال والتلاعب كانت بشكل ما هي الفائزة.
-ازداد اضطرابي في ذلك اليوم، تجمدت أنفاسي وعبراتي، غبطتي بتلك الأصوات على جانبي الجدار، يرفعون بعضهم بعضًا، لم يعد هناك عائق، هل آنت اللحظة التي تمنيتها كثيرًا؟
أحجاري تسقط رويدًا رويدًا بالأيادي التي تمنيت يومًا توحدها، آلامي كانت تداويها أصواتهم، أرى وجودي يهتز و يضعف في لحظات، كيف أصف هذه المشاعر؟
لم أكن أعرفُ حقًا كيف أصفها، كانت خليط من نشوة عارمة وألم يجتاح كل ركن يسقط من أركاني، سعادتي كانت مبهرة، هل كان لهذا الشعور أن يوصف؟
لا، لقد كان شعور ولِد ليتخلل في أعماق جدار مثلي.لقد سقط الكثير مني بسلام وقتها وقد عاشت بقاياي لتحيي السلام.
-مقتطفات من مذكرات جدار برلين
سقط جدار برلين عام1989
انتهى انقسام ألمانيا وتوحدت، تفكك الاتحاد السوفيتي بعد خسارته في الحرب الباردة.
النهاية-----------------
CriticsTeam|مسابقة في جوف الألوان
22018/7
أنت تقرأ
بين شطرين
Historical Fictionبين شرق وغرب برلين، على أعقاب الحرب الباردة، بين الاشتراكية والرأسمالية، اندثرت ملامحي لتكون رمزًا للقمع، والهرب والتفرقة، ورمزًا لاتحاد ألمانيا!