هي! شاردة الخطوات, علي الرغم من ان عقلها في وادٍ اخر, إلا أن صوتاً لا تكاد تميزه استوقفها .. لا لشيءٍ مميزٍ فيه ولكن لسرعة اقترابه منها, تطير في الهواء وتسقط على ذراعها الايمن
- سلام يا حلوة!
قالها ذلك الشيطان الجالس خلف سائق الدراجة البخارية منطلقاً بسرعة جنونية .. كلاهما لا تتجاوز اعمارهما السابعة عشر, قالها وهو ينتزع حقيبتها الصغيرة من على كتفها الأيسر.
تكاد ترى ضباباً!
- قومي يا بنتي .. ربنا ياخدهم!
حاولت العجوز ان تساعدها على القيام وقد تجمع حولها بعض المارة .. تشير جهة تلك الدراجة الذي كان ينحرف عند نهاية الطريق بعيداً عن ناظريها هو والحقيبة.
الحقيبة! منمقة كعادة الحقائب النسائية .. محفظة من الجلد الصناعي توجد اسفل الحقيبة تحتوي على 100 جنيه وبعض الاوراق من فئة الخمسة جنيه والعشرة جنيه, بطاقة شخصية, اعلى المحفظة تستقر زجاجة مياه معدنية بجانبها بعض ادوات التجميل داخل علبة كانت تباع على "الفيسبوك" في إعلان مدفوع بإسم "علبة مكياج الطوارئ" .. وفي جيب سري داخل الحقيبة كانت توجد علبة مستطيلة الشكل تكسوها خامة تبدو وكأنها قطيفة لونها أحمر .. بداخلها سلسلة ذهبية معلق بها كلمة "ريم".
"ريم" كان إسم أول مولودة لـ "محمود إبراهيم" .. عامل باليومية من هؤلاء الذين سافروا العراق وعادوا على اثر الحرب في التسعينيات .. عندما عاد الى مصر اشترى لابنته ذات الأربعة أعوام تلك السلسلة التي تحمل اسمها وحصَّل مقابل ذلك "حضناً كبيراً وقبلةً أكبر".
منذ ذلك الوقت ولم تفارق السلسلة رقبة ريم حتى وضعتها ذلك اليوم في حقيبتها.
نزلت ريم صبيحة ذلك اليوم وكانت على عجلة من أمرها ذاهبة إلى منطقة "الصاغة" لتبيع أغلي هداياها تلك السلسة التي تلقتها هدية من أبيها الذي يرقد بين الحياة والموت في غرفة العناية المركزة بإحدى المستشفيات الخاصة .. هي فقدت أمها منذ عامين .. أحوال "محمود إبراهيم" لم تعد كسابق عهدها .. إنحدرت حالته الصحية وتزامن معها تدهور الحالة المادية .. لم يعد قادراً على العطاء كسابق عهده ..
كان رحيل "أمل" زوجته أشبه بإنقطاع التيار الكهربائي في حياته .. بل أسوء ..
هو كان يراها مركز الكون بالنسبة لأسرته .. كان يحاول ان يستمر بنفس الطاقة ليخفف عن إبنته .. ولكنه لم يستطع الاستمرار ..
عادت ريم إلى المستشفى بخُفَي حُنَين .. نظراتها زائغة .. نفذت النقود التي ضمنت وجود والدها داخل المستشفى حتى صباح الغد .. لا تدري كيف يأتي الفرج
أرادات أن تشكو همها لأبيها كسابق عهدها .. كانت تبكي في حضنه عندما تتشاجر مع زميلة لها في المدرسة .. ذهبت لتستغل آخر دقائق الزيارة ..
تتأمل وجهه وهي تسمع الصفير المتقطع للاجهزة من حول أبيها .. تتداعى الذكريات أمام عينيها ملأى بالضحكات والسعادة ..
تنذرف دمعاتها هي لا تدري سبباً .. رغم إبتسامة باهتة كادت ترتسم على شفتي "محمود إبراهيم"
كانت هي آخر ما فعله قبل أن ينتهي الصفير المتقطع
ويتحول إلى ذلك الصفير المستمر .. المؤلم ..
معلناً رحيله!