ظلام دامس يغمر تلك الباحة الواسعة الكائنه أسفل منزله ، ظلام لا يتبعه سكون كما المعتاد إنما أصوات البكاء المكتوم وإصطكاك الأسنان خوفاً .. خوفاً لا يضاهي خاصته وقد عجز عن إيجاد قرة عينه وحبيبة صباه ، خوفاً علي والدته التي سقطت منذ قليل وهي تحاول إثناؤه عن الخروج من مخبأهم بحثاً عنها .. الا أن إقرار والدتها بوجودها في المنزل المقابل لدي صديقتها قبل أن تعلن صافرات الانذار عن غارة جديدة جعله يستكين بعض الشئ .. ولكن تلك الوخزة في صدره تؤلمه وصوت قصف طائرات العدو فوق الرؤوس يزداد عن المعتاد .. تحرك مسرعاً بعد أن هدأ القصف أخيراً لخارج المخبأ تلحقه تلك التي تكاد تموت رعباً رغم صمتها .. توقف مشدوهاً وكذلك فعلت والمشهد الصاعق للمنزل المنهار أمامهما فوق ساكنيه يشل كل حواسهما .. كان هو أول من أفاق من صدمته ليسرع كما الرجال من خلفه لا لمحاولة انقاذ الضحايا كما يفعلون ولكن للبحث عن شخص بعينه ، عسليته التي اندثرت كما البقية تحت كومة من الحطام .. توقف فجأة وهو يطالع طرف ردائها الدامي برعب صامت قابلته شهقة مرتعبة من خلفه بينما يسحب هو كالمغيب جثة حبيبته من تحت الأنقاض وقد احتضن الثري دمائها ،،،
شهقة مختنقة لشخص يصارع كابوسا مروعا انطلقت من فمه وهو يستقيم فجأة جالساً فوق فراشه .. جسده الذي غطاه العرق ينتفض وهو يستعيد وعيه منتبهاً لأن تلك اللحظات المرعبة ما كانت سوى كابوسه اليومي الذي لم يفارقه منذ ست سنوات ، منذ تلك الليلة التي فقد فيها كل شئ !!
*
كانت تنتظره ككل صباح بجوار نافذة غرفتها لتطمئن عليه أثناء ذهابه لعمله .. لقد أخبرها أن أحداث تلك الليلة الدامية لاتزال تخترق أحلامه كل ليلة بلا رحمة رغم مضي السنوات .. أدمعت عيناها عندما لمحته يخرج من باب المنزل منكس الرأس وفكرة واحدة تسيطر علي عقلها ، لابد أن تقنعه بالذهاب لطبيب نفسي .. مسحت دموعها بظاهر يدها وهي تنهض من جلستها عندما سمعت صوت طرقات علي باب شقتها تعلم جيداً لمن .. إستوقفتها والدتها بإشارة من يدها لتفتح بنفسها باب شقتها لصديقة عمرها .. وكما توقعت دلفت والدته من باب الشقة بأعين دامعة تجر أقدامها جراً خلفها .. أسرعت نحوها لتسندها حتي أجلستها علي أحد المقاعد وجلست بجوارها بينما جلست والدتها في المقعد المقابل لها قائلة بشك ،،،،،
- " هل هو ذلك الكابوس مجدداً ؟ "
أجابت والدته بإيماءة من رأسها تبعتها بقولها من بين دموعها ،،،،
- " لا أعلم ماذا علي أن أفعل مشيرة ، ابني يموت كل يوم أمام عينيي ولا أستطيع مساعدته "
تبادلت كل من مشيرة وإبنتها النظرات ثم ابتلعت ريقها كما غصتها وهي تقول ،،،
- " لابد وأن نقنعه بالزواج إحسان "
التفتت لها الأم بسرعة وهي تقول بغير تصديق ،،،
- " أأنت من تقترح زواجه بغير سارة "
شردت مشيرة في الفراغ وعلي ملامحها ارتسمت علامات الحزن المرير ،،،،
- " نعم فمحمود ولدي هو الآخر وما لا أرتضيه لإبنتي لا أرتضيه له كذلك "
هنا لم تعد تستطيع التظاهر بالتماسك لمدة أطول .. ركضت نحو غرفتها تلعق جرحها النازف وحيدة ، وكأن دائرة الأيام تدور حول تلك اللحظة وفقط ، لحظة إقتران حبها الميؤوس منه بأخري .. تماماً كالسابق ولكن تلك المرة مختلفة فبالتأكيد العروس المنتظرة لن تكون أختها التي ضحت بعشقها في سبيل سعادتها كما سعادته .. نظرات الإعجاب المتبادلة بينهما والتي طالما وارت نزف قلبها وقتها خلف ابتسامتها الهادئة لاتزال تتذكرها كما تتذكر الألم الذي كان يقتلها خفية عن الأعين .. وضعت وجهها بين كفيها وأجهشت بالبكاء ، كبريائها حرمها حبها في السابق وها هو سيحرمها منه مجدداً ، لماذا لا يراها كما تراه ، لقد أقنعت قلبها بأنها ستظل وحيدة بعده لاعتقادها بأنه لن يقترن بأخري فهل سيقبل باقتراح والدتها !!
طرقات علي باب غرفتها جعلتها تمسح دموعها بسرعة وهي تأذن للطارق بالدخول .. دلفت إحسان بهدوء تبعه إغلاقها لباب الغرفة ونظرات الإشفاق بعينيها أكثر وضوحاً من أن تغفلها لذا أطرقت برأسها تواري خزيها عن عينيها المتفحصتين .. جلست بجوارها بهدوء ينافي التوتر الذي غزا كيان الماثلة أمامها .. مدت أناملها تمسك بذقنها وهي ترفع وجهها لتواجهها ، حاولت تجنب النظر اليها ولكنها كانت لعينيها بالمرصاد وهي تقول بحنان إعتادته منها ،،،،،
- " لو ظننتِ للحظة واحدة بأنني لا أشعر بكِ فأنتِ مخطئة ملك "
نظرت لها ملك بصدمة لتستطرد الأم متابعة ،،،،
- " لطالما إستشعرت عشقك الصامت له بل ووددت أن تكوني أنتِ إختياره ولكن ليس لي علي قلبه سلطان "
وجيب قلبها كان يؤلمها بصخبه ، هل تعلم والدته ؟ قاطعت إحسان تفكيرها وهي تقول مربتة علي وجنتها بحنان ،،،،
- " لا شفاء له الا بك بنيتي "
مشاعر متضاربة كانت تعصف بكيانها وعيناها تطالعان بذهول والدته .. لا تعلم هل هي مشاعر السعادة التي تزورها أخيراً بعد يأس طال أمده ، أم هي مشاعر الذنب الذي يقتلها كلما إعترفت بينها وبين نفسها بعشقها لحبيب شقيقتها الراحله ، أن تحظي بالسعادة التي طالما انتظرتها في منزل أحلامهما .. هي لا تعلم من منهما سرقت أحلام الأخرى من الأساس .. لذا وقفت فجأة تفرك كفيها ببعضهما وبغصة ألم خنقتها همست وهي تحاول كبح دموعها التي هددت بالإنهمار ،،،،
- " و و لكني بالنسبة له لن أكون سوى ظل من طيفها ، سيراها دوماً في ملامحي ، سيسمعها في حديثي "
ثم حركت رأسها نفياً بهيستيريا وهي تستطرد من بين دموعها التي لم تعد قادرة علي كبحها أكثر بخوف واضح ،،،،
- " لا لا ، سأكون إنتكاسته لا دواؤه "
يا الله ما تلك الفتاة ، لطالما عرفت بعقلها وهدوئها علي عكس صخب ودلال شقيقتها الفطري الذي سلب لب وحيدها ولكن أن تضحي بعشقها للمرة الثانية خوفاً عليه ، لقد فاق ذلك توقعاتها بكل تأكيد .. نهضت عن الفراش لتقف أمامها بينما تربت علي وجنتها بحنو باسم رغم ملامحها البائسة ،،،،
- " لقد كانت سارة ابنتي كذلك وكأم أعلم يقيناً بأنكِ ستكونين طوق نجاته مما يعانيه منذ تلك الليلة المشؤومة .. ثقي بحدس إمرأة خط الشيب رأسها ورأت من الدنيا ما رأت لتكتسب ذلك اليقين ملك "
*
- " محمود "
توقف عن حركته الرتيبة كآلي يتوجه نحو غرفته ليلتفت لوالدته التي كانت في انتظاره ككل ليلة وهو يقول بوجه يغتصب الإبتسام ،،،،
- " مساء الخير أمي "
رغم توجسها من ملامحه المنقبضة الا انها ابتسمت وهي تقول بحنان بالغ وهي تقوم عن مقعدها ،،،،
- " مساء الخير حبيبي ، هيا بدل ملابسك سأعد الغداء وأنتظرك "
همت بالإلتفاف فاستوقفتها يده ساحباً لها نحو إحدي الأرائك متجاهلاً نظرات الفضول التي ترمقه بها .. أجلسها وجلس بجوارها ثم رفع يدها المتوسدة راحته مقبلاً لها وهو يقول بصوت جاهد لإخراجه ثابتاً ،،،،،
- " أمي لقد تطوعت في الجيش المصري "
شهقة تبعها سحب والدته ليدها لتلطم صدرها وهي تقول بأنفاس متقطعة وإستنكار واضح ،،،،،
- " ماذا !! "
سحب نفساً طويلاً ثم زفره بحراره وهو يقول مغمضاً عيناه ،،،،،
- " أمي رجاءاً أنا أحتاج لذلك ، لن أنس يوماً رحيلنا عن السويس بعد أن فقدنا ..... "
وصمت ، لم يستطع نطق إسمها تابعاً لكلمة الفقد ، هي الحاضرة الغائبة رغم كل شئ ، دمائها الزكية محتضنة لحبات الثري لايزال محتفظاً بها داخل خزانته التي يحرص علي إغلاقها قبل خروجه حتي لا تظن والدته الطيبة أن ما يحدث له ما هو الا نتاج تلك الرمال الدامية بين ملابسه .. ستظن حتماً أن روحها تطارده بعد مماتها .. قطعت والدته تفكيره وهي تقول بأعين دامعة ،،،،
- " أستترك أمك وحيدة محمود "
مسح دمعة خائنة طفرت رغماً عنه من عينه وهو يقول محتضناً كلتا كفيها الي صدره ،،،،،
- " الموت حق أمي ، أن أعيش أو أموت هذا قدري لن يتغير بالتحاقي بالجيش أو بالبقاء هنا بجوارك "
نفضت يديه عنها وهي تقف مولية ظهرها له قائلة بعنف ،،،،
- " قل لنفسك ذلك الحديث لتعلم أن عمر سارة لم تنقصه الحرب يوماً ، ابق هنا وسأز.... "
- " أمي "
كان ذلك صوت هديره الغاضب الذي قطع حديثها قبل أن يقف مواجهاً لها وهو يقول بإقرار ،،،،
- " لقد قررت وانتهى الأمر أمي واتخذت بالفعل خطوتي "*
![](https://img.wattpad.com/cover/161925264-288-k571276.jpg)