شعر أسود قصير جدا أو كما يُقال بالعامية "بوي". قامة متوسطة ورشيقة. شامة سوداء صغيرة أعلى الشفة من الجهة اليسرى. حاجبان أسودان رقيقان في بشرة بيضاء ناعمة كخيطي صوف رقيقين وسط قطعة حرير بيضاء. عينان واسعتان بلون بني فاتح.
بهذا الجمال اللافت العفوي دخلت وردة الكوفي شوب الذي اعتادت على ارتياده مع خطيبها سيف منذ أن كانا زميليْ دراسة في الجامعة. وجدت سيف جالسا بمكانهما المفضل في أخر القاعة وقد وضع رجلا على رجل وهو يستخدم هاتفه المحمول.
قالت في سرّها: "لابد أنه يلعب لعبة الكلمات المتقاطعة!"
ألقت عليه التحية مع ابتسامة كبيرة برزت عنها أسنانها الجميلة البيضاء المصطّفة بانتظام فائق. ردّ سيف التحية ونظر لها من فوق نظارته الطبية متفحصّا بسرعة الجينز الأصفر الذي تلبسه مع تيشيرت أبيض كُتب عليه بالانجليزية (حب, مرح, طعام.. هذه هي الحياة) فشعر بالامتعاض من شعار الأطفال هذا وتمنى لو يراها مرة واحدة فقط وهي تلبس بنطالا أسودا لائقا أو تنورة سوداء بدلا من لبسها هذا الذي كان يراه لبسا لا يليق بمن ستصبح زوجته خلال شهرين. عندما انتهى من تحليل لبسها علّق وهو يلوي شفتيه: "بِودّي لو أرفع لك القبعة الآن, لكني للأسف لستُ ممّن يلبسون القبعات. لقد تأخرت اليوم ربع ساعة فقط, وهذا تطور واضح يا عمري."
لم تهتم لتعليقه, لسببين: الأول أنها بنفسها تعترف أنّ مواعيدها كساعة الحائط القديمة الخاصة بجدّها والتي نادرا ما تشير إلى التوقيت الصحيح. والسبب الثاني هو أنها قد ملّت من تعليقات سيف السخيفة والمكررة بحذافيرها في كل مرة تتأخر فيها حتى لو بضع دقائق! سألت نفسها كثيرا: لماذا تقبّل أصدقائها وعائلتها طبعها هذا بروح رياضية بل وأصبحوا يتأخرون قليلا ولا يستعجلون عندما يكون هناك موعدا معها. أما سيف فإنه كان ومازال ناقدا باستمرار و(على الليبرة) باستمرار وكأنه ساعة بيج بين البريطانية.
قالت وهي تُخرج دعوة عرس صديقتهم نيرمين من حقيبتها: "لقد رأيتُ نيرمين البارحة وقامت بإعطائي دعوتك أيضا عندما علمت أنني سأقابلك اليوم. هاك تفضل."
امتعض سيف قليلا من تصرف نيرمين, فقد كان يريد أن يستلم الدعوة منها شخصيا, لأن الأصول هكذا! ولكنه لم يُعلّق تجنبا للشجار مع خطيبته الحبيبة. فهو لم يأت بها اليوم لينتقد أصدقائهم أو تصرفاتها أو ردودها, بل أتى لينقل لها خبرا سعيدا سيطير قلبها به فرحا.
عدّل من جلسته ونظر لها نظرة طويلة تعمّد أن يجعلها مليئة بالحب وإن بدتْ لوردة أنها مليئة بالعتب!
قال: "حبيبتي وردة ..
أتى النادل فجأة وقال دون تنحنح أو مقدمات: "ماذا تحبان أن تطلبان؟"
نظر سيف بضيق واضح إلى الشاب الهمجي وقال: "صباح النور.. يبدو أنك جديد هنا!"
نظرت وردة بلطف إلى النادل وابتسمت ابتسامة حلوة قائلة: "نسكافيه بالحليب الكامل الدسم لطفا"
"لن أطلب الآن. عُد بعد 5 دقائق لو سمحت!" قال سيف وهو يتفحص رسالة على هاتفه.
ابتسمتْ مجددا لسيف وقالت: "هيا قل وأفرح قلبي, لم أعد قادرة على الصبر!"
وهو مستمر بكتابة الردّ على الرسالة الهاتفية, قال دون أن ينظر لها: "فقط لحظة واحدة يا حبيبتي. يجب أن أردّ على هذه الرسالة المهمة."
شعرَتْ بالخيبة. لكنها أخذت تتأمل سيف بكتفيه العريضين وشعره البني المتموّج الجميل. إنه شاب وسيم جميل الطلعة قوي البنية. تخرّج مثلها منذ سنتين من كلية التجارة وابتدأ العمل فورا في أشهر بنك في البلاد براتب لايحلم فيه خرّيج جديد. أما هي فقد مكثت سنة كاملة عاطلة عن العمل رغم أنها لم تكف عن البحث والذهاب إلى المقابلات. وبالنهاية وجدت عملا في شركة صغيرة براتب صغير أيضا. ولكنها راضية وتحب مكان عملها لأنها تشعر بدفء المكان وبأنها وزملائها الخمسة هناك عائلة حقيقية.
كان سيف يلومها كثيرا على سوء اختيارها لهذا العمل الذي ينتهي راتبه قبل منتصف الشهر. لكنها كانت تتمنى لو أنه يستطيع استيعاب الموضوع من وجهة نظرها هي. فلم يكن يهمها الراتب كما يهمها روح المكان والسعادة التي تتحقق بالمدير الجيد والزملاء المحبين الذين يجعلون مكان العمل كبيت ثانٍ. ثمّ ها هو سيف لا يكف عن التذمر من مديره اللئيم وزملائه الحاسدين الغيورين. لذلك كل ما يفعله هو المحافظة على حد العلاقة الأدنى فلا هو صديقهم ولا هو عدوّهم. كلّ هذا من أجل الراتب الكبير! إنها ترفض ألف راتب كبير كهذا إن كان المقابل هو أن تموت روحها المنطلقة ببطء.
لذلك, كانت أحيانا تتمنى في أعماقها لو أنّ سيف عادي الجمال والجسم ولكن بروح مرحة,محبة للحياة, وبسيطة كروحها. تأفّفت بصمت وهي تردّد داخلها أنّ هذه هي الحياة.. ولا نستطيع أن نحصل فيها على كل شيء!
وضع سيف هاتفه جانبا ونظر إليها قائلا دون مقدمات: "لقد وجدتُ شقة أحلامنا. ثلاث غرف وصالة كبيرة. حمّامان. مطبخ أمريكي مفتوح على غرفة المعيشة. وشُرفة تتسع لأربعة كراسي مطلة على الشارع الرئيسي. وقد وافق البنك الذي أعمل فيه على دفع مبلغ الشقة وأعطوني عشر سنوات للتسديد بفائدة قليلة."
صفّقت بمرح وهي تشعر بفرح غامر ثمّ غطّت وجهها وهي تضرب قدميها بالأرض قائلة: "لا أصدّق. إنه أحلى خبر أسمعه في هذه السنة."
أتى النادل بالنسكافيه ووضع الكوب أمامها: "تفضلي يا آنسة."
نظرت له وعيناها ترقصان فرحا: "شكرا شكرا شكرا. ألف شكر يا وجه السّعد."
احمّر وجه النادل الشاب وانصرف دون أن يأخذ طلب سيف.
أشاح سيف بوجهه جانبا وهو يحاول كتم الضيق الذي ألّم به من ردة فعل وردة. كان يسأل نفسه أحيانا لماذا تعلّق قلبه بها وهي أبعد ما تكون عن فتاة أحلامه التي كان قد وضع صفاتا مسبقة لها تتلخص بالهدوء والتحفظ والرزانة بالتصرفات وردود الأفعال. أي مثله تماما وعكس وردة تماما!
إنّ سهم كيوبيد الذي انغرس في قلبه عندما جلست بجانبه في أول محاضرة لهما في السنة الأولى, قد انغرس بعمق. لقد أبهره جمالها وضحكتها الرائعة. هذا غير حنانها ودفئها اللذان غمرا جليد قلبه فأذابا الكثير منه. لقد وجد فيها الأم التي يفتقدها منذ أن توفيّت والدته وهو في الثانية عشرة, والحبيبة التي يحتاجها قلبه, والرفيقة القوية التي يجدها دائما في وقت الأزمات. كانت كالشمس المنيرة تماما, تضيء حياته فتجعل الغيوم السوداء تنقشع ويعمّ الدفء في المكان. إنه لا يتخيّل نفسه وحيدا في لعبة الحياة بدون هذه الرفيقة الدافئة العفوية الحنونة, لكنه يتمنى فقط لو أنها أكثر رزانة وأنضج من هذا.
مدّت يداها وأمسكت بيديه ضاغطة على أصابعه: "إنّ يديكَ باردة كالثلج!"
"وأنتِ يديك دافئة كالشمس" قالها وهو يمرّر أصابعه على أصابعها الرقيقة ويبتسم لها بِحُب.
ابتسمتْ ابتسامة كبيرة, أكبر من ابتساماتها السابقة وقالت: "إذا لقد تعادلنا"