للمرة الثانية خلال عشرين دقيقة , أغلق باب المنزل رقم 3 في (بايرن سكوير) بعنف كدر سلم الميدان الذي تحف به الأشجار.أرتعد الباب في أطاره , وتوقفت قطة رمادية مخططة عن لعق وجهها , لتنظر فيما يشبه اللوم الى الرجل الطويل المضطرب الذي ينزل الدرجات الست المؤدية الى الرصيف ,ثم ما لبثت أن أستأنفت تنظيف فرائها الناعم لكن ما أن أنقضت ثوان أخرى , حتى دوى صوت أصطفاق ثالث معدني هذه المرة , أذ ركب الرجل السيارة المرسيدس الحمراء التي كانت تقف قرب الحاجز الحجري للطريق وأغلق بابها بعنف ثم أنطلق بها بسرعة مزعجة.أنغمس جاسون ستيل في طوفان المرور المتدفق مقتنعا في قرارة نفسه بأن لديه كل المبررات ليفقد أعصابه , فقد جعلوه يبدو مغفلا طوال الوقت , نعم , بدد وقته , وفقد البقية القليلة الباقية من ايمانه بالطبيعة الأنسانية , كان أعمى مسلوب العقل أحمق لينفق كل هذا المال على تلك المرأة ... يا للنساء , وقلوبهن الفولاذية وعقولهن الصغيرة التي تختفي وراء وجوه بريئة وأجسام مستسلمة , كالحيات السامة , لن يتكرر ذلك , قال هذا من قبل لكنه هذه المرة يعني حقا ما يقول , أستغفلته المرأة مرتين في حياته , لكن هذه المرة أكثر حرصا.وأوقفته أشارات المرور ثلاث مرات فزمجر صائحا في المرة الثالثة:": يا ألهي!" أنه يريد صحبة الرجال الطيبة , فمع الرجل تعرف على الأقل أين أنت وتستطيع أن ترد الهجوم بمثله , وتقلصت أصابعه على عجلة القيادة , كان في أمكانه أن يتهور ويخنق (مايك فريزر) الرجل التالي له في العمل والذي يثق فيه... غير أنه كان طوال هذا الوقت هو وكاترينا...وبعد أن رشف قدحين من الشراب شعر جاسون أنه أكثر هدوءا لكن مزاجه لم يزل معتلا , فخرج وحدق في السماء المليئة بالسحب , ثم نظر الى ساعته فوجد أنها تجاوزت الثامنة مساء بقليل , وقرر فجأة أن يذهب الى مكتبه ليأخذ مذكراته عن الأتفاقية الأضافية مع شركة سترانجكو , لقد فسدت أمسيته في أية حال , وأصدقاؤه غير موجودين الليلة وفقد شهيته , فضلا عن أنه مكبل بأعمال كثيرة متأخرة , أذ أضاع وقته في الأسابيع القليلة الماضية على تلك المرأة وتراخى في عمله.كان المقر الرئيسي للشركة (كارونا ستيل) يشغل برجا من الأسمنت والزجاج أرتفاعه 24 دورا ويطل على التايمز قرب محطة بلاك فرايارز , وكان مكتب الأستقبال فيه ما يزال مضاء بنور خافت , ولمح في جزء مرتفع من المبنى ضوءا دل على أنه ليس خاليا تماما , كما أعتقد جايسون وهو يوقف سيارته.صعد الى الطابق الواحد والعشرين وسار الى مكتبه على سجاد سميك يمتص صوت وقع الأقدام مهما علا , لكنه توقف بغتة , فقد أدرك بغريزته أن هناك شيئا ما غير طبيعي , وأن الضوء الذي لمحه من الخارج كان منبثقا من مكتبه , عبس وجهه وأكفهر , فقد ترك مكتبه منذ ما يزيد على ساعتين وهو بالتأكيد لم يترك النور مضاء , سار وهو حريص ألا يحدث صوتا وتوقف قليلا أمام الباب ليندفع اليه فينفتح له , بدا المكتب خاليا للوهلة الأولى , لكن النظرة المدققة أوضحت أنه لم يكن كذلك , فقد رأى قمة رأس تظهر من ظهر الكرسي الضخم الذي يواجه الباب , فتقدم ليضغط على جرس الأنذار مزمجرا:" أخرج...".لكن الكلام تجمد على شفتيه عندما ألتفتت اليه فتاة عيناها مملؤتان رعبا ويداها الصغيرتان تتشبثان بعنف بظهر المقعد , وفمها يستدير في تعبير عن الفزع والأضطراب , وحاولت أن تقول شيئا لكن الأضطراب غلبها , وأستعاد جايسون رباطة جأشه ووصل الى الكرسي في ثلاث خطوات مسرعة , وأنكمشت الفتاة من منظر الغضب البادي على سحنته محاولة الأفلات من نظرته , كانت نصف جاثية على ركبتيها في الكرسي فأمسك بذراعها ورفعها بعنف وصاح:" أي شيطان أنت؟ أي جحيم أتى بك؟". ولم تحر جوابا فقد بدت وكأنما الصدمة جمدتها , أخذ يهزها بقوة آلمتها فقالت:" أنا... أنا ... ألا تعرفني يا سيد ستيل ؟ أنا أعمل هنا"." كلا أنت لا تعملين هنا , هناك نحو 500 موظف في هذا القسم , وربما أكثر ولم يتح لي وقت للتعرف اليهم جميعا".مرت بيدها على العلامات التي غرستها أصابعه في جلدها الرقيق وقالت:" أنا أعرف ذلك , أنا آسفة أن أفزعتك يا سيد ستيل".رأى تقلص حلقها وهي تزدرد لعابها لكن نظرته لم تلن وقال لها:" حسنا , أنني أنتظر تفسيرك يا آنسة ... أيا كان أسمك".خامرته بشأنها عدة ظنون لم يكن أي منها سارا , وأضاف بعبوس ونفاذ صبر:" فسري الأمر , ام هل تودين أنتظار الشرطة ؟ أجيبي من أنت؟".ففزعت من ذكر الشرطة وقالت لاهفة:"لا , أن أسمي ميك... ميراندا روزميك"." أنا في أنتظار تفسيرك يا آنسة ميك"." من الصعب تفسير الأمر"." ذلك ما يقال عادة"." أعرف , أن كل هذا لا بد أن يبدو شنيعا , ولا بد أنك أعتقدت...".وفجأة وقع نظرها على حقيبتها المفتوحة التي تبدو منها ملابسها الداخلية فأنحنت بأنفعال شديد وأغلقتها ثم أضافت:" أنا آسفة للغاية لأنك صدمت عندما دخلت ووجدت كل هذا...".وبدا أنها تجد صعوبة في الأستمرار فتوقفت وتحولت عن نظراته التي تحمل معنى الأتهام , وقال جايسون بقوة:" الدموع لن تؤثر في , أصغي اليّ , فأنا أنوي الحصول على تفسير لهذا الأقتحام قبل أن أفصلك بنفسي وألقي بك خارج المبنى مع كل الزبالة التي حملتها معك"." أنا آسفة يا سيد ستيل أنه خطأ لا يغتفر , أنا أعرف ذلك , لكنني لو أستطعت فقط أن أجعلك تفهم , لكن...".وهزت رأسها وبدأت في جمع السندويشات والشوكولاتة وألقت بها جميعا في الحقيبة , ونظرت الى علبة الحليب وألتقطتها ثم أعادتها الى مكانها في يأس , وكررت:" أنا آسفة , أنا... كل ما أستطيع قوله أن مخاوفك لا تمت الى الواقع بصلة , فأنا لم آت للسرقة , لك أن تفتش حاجياتي أن لم تصدق , وأنا أدرك تماما أن لك كل الحق في أن تغضب , لكنني سأذهب الآن و...".فسد طريقها الى الباب وأمسك بذراعها قائلا:" لا".توقفت فورا ونظرت اليه, وأمتزجت رموشها الحريرية الطويلة بالدموع وبدت آثار البكاء واضحة حول عينيها وقالت:"دعني أذهب , أرجوك , لا أستطيع أن أفعل شيئا أكثر من الأعتذار"." دقيقة واحدة , لم أنته بعد , هل هذا هو كل ما تستطيعين قوله؟"." ما الذي تتوقع مني أن أقوله؟".وتنهدت قائلة:" هل ستصدقني ؟ وهل أنت على أستعداد حتى لآن تصغي الي مجرد أصغاء دون أن تنهال عليّ بالأتهامات؟"." لماذا أيتها الوقحة البذيئة؟".كان صوته عاصفا على نحو بدا غريبا حتى في أذنيه , وأنتابه أحساس سبّب له أضطرابا , أحساس يشبه الخجل وأدرك أنه أفرط في صب جام غضبه عليها , لكنه أعطاها فرصة للدفاع عن نفسها, ولم تفعل وقال لها متذمرا:" أنا مصغ اليك".وأخذت نفسا عميقا وأستدارت اليه لتواجه نظرات الأتهام في عينيه , وأستعادت قدرا من تمالك النفس , ورغم أن عينيها كانتا تموجان بدموع بدت معتزة بنفسها وهي تقول:" من فضلك , دعني أذهب , أنك تؤلم ذراعي".وأنقلب الميزان بصورة ما وبدأ يحس أنه غير مرتاح وأنتابه شعور غريب مقبض وقال:" لا أنوي أن أتركك , لماذا جئت وأثرت كل هذا الأضطراب؟"." لم أقصد هذا أبدا , لو عرفت أنك ستعود الليلة لفكرت في شيء آخر لكنني لم أتوقع أبدا..."." فكرت في ماذا؟ بديل لماذا؟".وتنهدت قائلة في يأس:" أعتقد أنه عليّ أن أخبرك , وألا لن تصدقني أبدا: كنت سأمضي الليل هنا"." هنا في مكتبي؟".فأمومأت مؤكدة , فقال لها:" لكن لماذا؟"." لماذا يقضي أنسان الليل في مكان ما؟ لأن قضاءه في الشارع ليس أكثر مدعاة للسرور".وفضحت عيناع دهشته وهو يقول:" أليس لك بيت؟".فأبتسمت بوهن ثم قالت:" أشارك ثلاث فتيات أخريات في شقة , وأعتقد أنه يمكن أن نسميها بيتا"." أذن لماذا لم تذهبي الى هناك الليلة؟".فخفضت عينيها وحولت وجهها بعيدا وهي تقول:" أستطيع أن أقول نوعا من الطوارىء منعني"." هل هو المرض؟ هل تواجهين مشاكل من نوع ما؟".وتقلص فمها بمرارة وسخرية وهي تقول:"كلا, على الأقل أن لم تعتبر الموقف الذي أجتازه مشكلة"." أذن لماذا ؟ بصراحة أن كلامك غير منطقي"." أعرف , لكنني أشك أنك ستفهم أذا أخبرتك بالحقيقة هل تصدقني أذا قلت لك أنني , لم آت لأسرق ؟ كل ما كنت أريده هو مأوى لقضاء الليل".ورأى نظراتها تجول عبر المكتب حول ولاعة المكتب الفضية والقلمين الثمينين , وصندوق السكائر الكريستال المحلى بالذهب الذي كان الهدية الأولى الوحيدة التي أعطتها كاترينا له , ثم ردت بصرها اليه وهي تقول:" ألا تستطيع أن تقبل أعتذاري وتدعني أذهب؟"." الي أين؟"." هل هذا يهم؟"." يجب أن يكون لك مكان تذهبين اليه"." تلك مشكلتي , أليس كذلك؟".وجمعت حاجياتها , ومشت الى الباب , فقال لها:"دقيقة واحدة".فأستدارت اليه وعلى وجهها سيماء التحفز , ورأى أستعدادها للدفاع مرتسما على شفتيها الصامتتين المنضغطتين فقال لها ببطء:" ما الذي يجعلك متأكدة أنني لن أفهم؟"." لأنك في حالة غضب شديدة ثم لماذا تهتم أن تفهم؟"." ألا تعتقدين أنك مدينة لي؟"." قلت لك , أنني أشارك ثلاث فتيات أخريات شقة , ولا أعرف ما أذا كنت جربت أن تعيش في ثلاث غرف صغيرة مع ثلاثة أشخاص آخرين , الحياة الخاصة هناك تقل لأقصى حد , بل تنعدم فعلا , والأمور يمكن أن تسير فقط أذا قبلت ذلك, وحاولت ألا تنفس من غضبك".وترددت مرة أخرى, فأحس بالحنق , لماذا لا تدخل في الموضوع؟ من الواضح أن شجارا ما حدث وأن زملاءها ألقوا بها الى الخارج لكن الأمر لا يستدعي أن تأخذ الأمر بهذه الخطورة , وقال لها:" أن هذه الأشياء تحدث في كل الأوقات , ويتعين عليك أن تتعلمي الصمود وألا تتهوري , هل طردك زميلاتك عنوة أم تركت لهن الشقة بمحض أرادتك؟"." كلا, لم يكن الأمر كذلك على الأطلاق , أنت لا تفهم المسألة , الأمر مقصور على هذه الليلة بالذات , لم يكن مناسبا أن أقضي هذه الليلة بالذات معهن".بدأ يدرك الموقف , وضحك, لا بد أن خياله شاح أذ نسي المشاكل التي تواجه الأنسان وهو يقوم بمغازلة فتاة في غير منزله الخاص , وعاد بذاكرته الى الوقت الذي أمضى فيه ستة شهور في فرع باريس , ومشاكل المشاركة في الشقة عندما كان يحضر كل حبيب حبيبته ويتعين عليه أن يتأكد أولا من خلوها , وأضطرار هؤلاء الى البقاء في الخارج , أخذ جاسون يتذكر كل هذا مبتسما , لكن الفتاة عاجلته قائلة بحدة:"أن الأمر ليس ترفيها"." آسف كنت أفكر في شيء آخر".
أنك حتى لم تصغي حتى مجرد أصغاء ,بعد أن أحدثت كل هذه الجلبة"." كنت أصغي أليك, لكن لماذا كل هذا الأنزعاج , أذا كانت زميلتك تريد أن ترفه عن شخص دون وجودك فيمكنك بالتأكيد أن تمضي الليل مع أحد الأصدقاء أو تذهبي الى فندق لهذا الغرض"." الفنادق تكلف المرء نقودا".فهز كتفيه , وهو يعجب لماذا يهتم بأن يقدم لها الأقتراحات , الأفضل أن يتخلص منها ويجمع مذكراته دون أن يبدد المزيد من الوقت , وسحب مفاتيحه وأتجه ليفتح الدرج الأعلى من المكتب , فقالت له دون مواربة:" أننا في آخر الشهر , وأنا مفلسة وأنت لم تزل غير مدرك للأمر"." يا آنسة ميك , هل هناك ما يتعين أدراكه سوى أن لك موهبة مرموقة في أن تعطي لنفسك حريات فاضحة؟".لم تحر جوابا ولكنه رأى ظلا عبر مكتبه فرفع عينيه ورآها متجهة ألى النافذة , حيث نظرت محدقة الى تلك السجادة اللامعة من أضواء لندن التي تمتد الى السماء السوداء, وقالت ببطء:" زميلاتي سيشتركن في حفل من نوع خاص يرغبن مني المشاركة فأعتذرت ولهذا أنا هنا".وهنا بدا وجهه متجهما , في صوتها الصريح شيء جعله يتجهم , ورغما عنه شعر للمرة الثانية بأنه غير مستريح , أي شيطان ساق اليه هذه الفتاة ؟ وسألها:" ماذا تعنين ؟ نوع خاص من الحفلات؟".وأحس بآهتها قبل أن يسمعها , وكان أول ما تبادر الى ذهنه أنه حفل لتعاطي المخدرات , لكنه قبل أن يصرح بظنونه قالت له في يأس:" أنك تعتبر الأمر شيئا مسلما به ولا يثير الفضول , وكل من لا يسير في ركاب هؤلاء القوم يعتبر جبانا ورجعيا".فأجابها بحدة:" أذا كنت تقصدين ما أعتقد أنك تعنيه- وهو المخدرات_ فأنني لا أقبل ذلك ولا أسلم به , وأذا كان هذا هو ما يجري في شقتك وتريدين أن تبتعدي عنه , فأبتعدي ولا تبالي بما يقال عنك".لا بد أن كلماته كشفت عن أشمئزازه على نحو لم يتوقعه هو, فقد أدارت رأسها وبدأت تتأمله وأبتسامة الأجهاد على شفتيها وهي تقول:" أليس هذا هو ما فعلته؟ فلم كل هذه الجلبة؟ أنها لم تكن حفلة مخدرات هذه المرة يا سيد ستيل , أنما حفلة حب"." هل أنت رجعية يا آنسة ميك؟"." لا أعتقد أنه يعنيك ما أكون , وأنني لأتساءل هل كل هذا الوقت الذي ضيعناه لا جدوى منه , لا أقصد وقتي بل وقتك".ووقفت صامتة يختلط القلق والفضول على وجهها كما لو كانت تنتظر الأذن منه لكي تهرب , ثم أضافت :" أنا... أنا لا أستطيع أن أبقى هنا الآن , ولذلك أذا كنت...".وأبدت أشارة تدل على رغبتها في الأنصراف , وأحس هو فجأة بالرغبة في الخروج من المبنى , ونظر الى ساعته وأدهشه أن ساعات أنقضت وليس فقط عشرين دقيقة منذ أن دخل المبنى , ووضع الأوراق في حافظته ونظر الى أعلى ليرى أن الفتاة لم تتحرك , كانت واقفة بلا حراك تحملق فيه فقال لها:" تعالي , تناولي بعض الطعام"." ماذا؟"." قلت تعالي تناولي بعض الطعام"." معا؟ ليس ذلك ضروريا"." ولم لا , هل هناك شيء منفر يبرز من أذني؟".وهزت رأسها في يأس قائلة:" كلا , لكن ... أعتقد..."." أوه , بحق السماء كفي عن الجدل , لا تخشي أن آكلك"." نعم , أعرف ذلك , لكن... لكنني لا أفهم"." لست مجبرة على الفهم , أنا جوعان , ولا أحب أن آكل لوحدي".فتقدمت للأمام غير واثقة , ثم توقفت وقالت:" ليس لي أن أعتقد أنك أردت أن تأكل معي".تنهد جاسون وكظم غيظه وهو يقول:" أسمعي يا فتاتي , لا أعتقد أنك في وضع يسمح لك بالتفكير , أما أن تفعلي ما أقوله أو أدعو الحارس ليلقي بك الى الخارج , ماذا تختارين؟"." لم تترك لي الخيار , حسنا , لكن ملابسي لا تتناسب مع الأماكن الراقية التي أعتقد أنك تتردد عليها"." لن أتردد على أي منها الليلة, سنذهب الى حانة صغيرة هادئة".ألتقطت حقيبتها وسارت نحوه وهي تقول متشككة:" هل هناك حانات هادئة؟".أصطحبها الى الخارج قبل أن يطفىء النور وهو يقول:" الصحبة وليس المكان, هي التي تحدث الضجة".بقيت بعيدة عنه تنظر الى اللوحة المضيئة والمصعد يهبط بسرعة وهدوء للطابق الأرضي.ونظر اليهما الحارس الليلي قبل أن ينظر الى زميله , وأدرك جاسون أن التكهنات ستكثر بعد رحيلهما ورأت ميك كلب الحارس فقالت:" أي كلب رائع هذا!"." لا أعتقد أن هذا سيكون رأيك لو أنك أصطدمت به خلال الليل"." لا , لا أظن".وأنتابه وهو يفتح السيارة الأحساس الذي شعر به في المصعد وأخذ يتساءل عما يدور في رأسها؟ هل هي متحجرة فعلا كما تبدو؟ أم أن تلك تمثيلية أخرى فحسب؟.أتجه الى الجنوب الغربي , كان في منتصف الطريق الى مكانه المختار عندما أتخذ للمرة الثانية في الليلة نفسها قراره المفاجىء والغريب , ففي التقاطع التالي أتجه يمينا وتجاوز غرين بارك متجها الى حي سوهو.ولم تتخل عن صمتها وهي تنزل من السيارة , لكنها للمرة الأولى أقتربت منه قليلا وهما يقتربان من مدخل المطعم , وحياه البواب بأسمه . وفتح لهما الباب , وأحسا بالجو الدافىء العبق , ونظرت اليه الفتاة مرة أخرى وهو يصطحبها نازلين عبر سلالم حلزونية ضيقة , وكبت جاسون تكشيرة أوشكت أن ترتسم على وجهه عندما بدأ يستعيد ذكرياته في هذا المكان.كان الوقت ما يزال مبكرا , وهناك عدد من الوجهاء وعدد أقل من الصبية يتناولون العشاء , وكان الحائط المخملي الأسود يشكل خلفية تبرز الملابس الملونة , خاصة الأكثر غرابة.وعندما جلسا وجهت ميرندا نحوه عينين تنطقان باللوم وهي تقول:" قلت أننا سنذهب الى حانة هادئة "." غيرت رأيي "." ملابسي لا تتناسب مع مكان مثل هذا"." هراء , فهنا تستطيعين أن تلبسي أي شيء"." ربما, لكنني أود لو لم أكن بملابس العمل".فقال وعيناه تجولان في ملامحها:" أنت تبدين في خير هيئة , وفي أية حال لا أجد فرقا كبيرا بين ملابس العمل التي ترتديها الكثيرات من الموظفات العاملات معنا وملابسهن في الأماكن الأخرى , هناك فتاة واحدة فقط في الحسابات تبدو دوما كأنها في طريقها الى السهرة"." أوه ...أنها الآنسة هارفي , ذوقها رائع في الملابس , لكنها تعمل مساعدة رئيس الحسابات , ومن ثم تستطيع أن تمتع نفسها"." في أية حال , فأنا نفسي ما زلت بملابس العمل"." أنت مختلف".شعر بالسرور ولم يستطع أن يقاوم الأغراء الدائم بالحصول على ثقة النساء, فقال:" كيف ؟ لماذا أختلف عن ذلك عن ذلك العدد اللانهائي من رجال الأعمال في المدينة؟"." هل تود حقا أن تعرف؟".جعله الصوت الهاديء والأمانة البادية في عينيها الجادتين يخجل من رغبته الخفية في الحصول على أعجاب النساء , وقال بصراحة:"مركز الأنسان في القمةأمر له مساوئه كما تعرفين , فأذا حدث خطأ ما في العمل فعليه هو أن يتحمل المسؤولية بينما المساهمون في الخطأ لا يرحمون"." أنك مختلف لأنك تستطيع أن تذهب لأي مكان في العالم , وأذا أشرت لتاكسي فأنه سيقف والغرسون يراك دوما لحظة دخولك , وأذا أعطيت أمرا فلن يكون عليك أن تنتظر لترى ما أذا كان سينفذ , أنه ينفذ دائما , الناس يطيعونك غريزيا لأن لك سيماء السلطة , تلك هبة , أعتقد ذلك , وهي الهبة التي يترتب عليها الفرق بين النجاح والفشل في الحياة , وهذا هو السبب في أنك مختلف".قال جاسون مندهشا:" يا للسماوات , من أين جئت بكل هذا , أنت لا تعرفينني حتى مجرد معرفة "." ليس من الضروري أن تعرف شخصا لتحكم على قدراته ".رفع جاسون ذقنه قليلا وهو ينظر بلا تركيز الى الطعام الذي وضعه الغرسون أمامهما وقال:" هكذا يبو الأمر".وأخذ يتساءل هل تفكيرها عميق حقا , أم أن موقفها المحافظ هذا ليس سوى رد فعل للتهديدات التي وجهها اليها عندما وجدها في مكتبه؟ هل كانت هاربة حقا من الحب أو ما يسمونه هذه الأيام الأنغماس في المجون؟وأستعاد آليا طبيعته الساخرة الأخاذة التي أصبحت طبيعة ثانية يستدعيها عندما يجالس النساء , ونادرا ما خذلته هذه الطبيعة , والآنسة ميرندا لا تشذ عن ذلك , أذ بدا أن رهبتها منه ضاعت, وأن تجاوبها يتزايد وترد على أسئلته فورا وأن كان بحياء وخجل , وبدأت تتكون في مخيلته وتكتمل صورة عنها , ولم يندهش عندما أكتشف أنها يتيمة وأنها نشأت منذ كان عمرها عامين في كنف عمة لها , ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا ليعرف أن تربية هذه العمة وأسمها هيستر كانت حازمة متزمتة وحانية في الوقت نفسه, وقال معلقا على حديثها حول عمتها:" أعتقد أنك بذلت جهدا مضنيا لتحصلي منها على حريتك , فالحارس الصارم يمكن أن يكون أكثر تشددا من الأبوين"." عمتي هيستر لم تكن صارمة"." أصحيح أنها لم تكن كذلك؟"." ماتت منذ أربعة شهور"." شيء يؤسف له".وساد السكون لحظة , وبدأ يخشى أن تبكي , لكنها هزت رأسها وقالت بصورة أدهشته:" يبدو أنني أسرفت في ذكر حماقات كثيرة عن نفسي"." كلا , أطلاقا , أشرحي لي كيف أحسست عندما أصبحت فجأة تتحملين مسؤولية حريتك , بعد تلك التربية المتزمتة والحازمة".ردت بهدوء:"كان الأمر مرعبا في البداية , فقدت القريب الوحيد لي بين الأحياء وفقدت بيتي , وفي الوقت نفسه أيقنت أنني أستطيع أن أفعل ما يحلو لي , كنت أحيانا أحس بالذنب , أعني أنني كنت أحب عمتي كثيرا , لكنني لم أكن أستطيع أن أتركها وحيدة"." ولا حتى لكي تتزوجي؟".وترددت برهة وبدا التفكير في عينيها وقالت:" غريب أن تقول هذا , من فضلك لا تضحك , لكن...".فقاطعها قائلا :" لماذا هو غريب؟"." كان حلم طفولتي أن أصبح عازفة بيانو , لكن العمة هيستر لم توافق على أي شيء يربطني بأعمال ترفيهية , وقالت أن عليّأن أفكر في أمر أكثر أمنا ويعول عليه مستقبلي, مثل العمل بالسكرتارية أو التعليم".
أنت تقرأ
عـذراء في المدينـة - مارجري هيلتون
Romanceالملخص ميراندا وردة بيضاء , جاءت الى لندن لتعمل في شركة مديرها العام جايسون معروف بمغامراته العاطفية . الجميع يخافون جايسون وهو دائما على سفر , لكن الظروف تشاء ان يلتقيا , هي العذراء البريئة برأسها المليء ياخلاقيات وتقاليد تعتبرها المدينة الكبيرة با...