" أشعرُ برغبةٍ مُلحّةٍ في البكاء . هل تملكُ وسيلةً لذلك فأكون مدينةً لك " .
حمل إليّ هاتفي هذه الرسالة منها قُبيل الفجر ، وفنجان القهوة على طرف شفتيّ ، فاحترق جوفي من حرارتهما . كنتُ مثلها ، أشعرُ برغبةٍ مُلحّةٍ في البكاء ، أُسافرُ إلى قُرى لم تطلها الخرائط ، وأرى أُناسٍ يتسكّعون بحثاً عن لقمةٍ لأولادهم . مُفلساً كنتُ و جائعاً و وحيداً لا أملكُ إلا القهوة أشربها مُرّة .
وأنا الذي أشعلتُ الليل بالتأمل ، كنتُ أنتظرُ صوت آدمي يعيدني إلى الحياة ، يخبرني أني امتدادٌ لهؤلاء البشر على الأرصفة ، أو لأولئك الجالسين على الشاطئ . أراهم جميعاً من نافذتي وأسأل :
" أثمة من يعرفني منهم أو يهمّه أمري ؟. وجاءت رسالتها تسأل عن وسيلة تساعدها .. وتساعدني !!" .
فكّرتُ ملياً : جهاز الهاتف لا يضبط التشكيل ، و هذه الأنثى لا تضبط طلباتها أيضاً . ولو ضبط الهاتف التشكيل لن أجد إجابة للسؤال :
" هل قصدت أن تكون مدينة أم مدينة لي ؟."
كم أشتهي أن تكون مدينتي ، ألجأ إليها ، أسكنُ في أعلى بناياتها ، وأطّلعُ على كلِ شوارعها والأزقة . طلبتها مراراً قبل هذا الوقت ورفضت . وأعلمُ في ذاتِ الوقت بأني مدينٌ لها بالحياة . أنقذتني من موتٍ محققٍ تحت قطار الوهم ، ورسالتها تحمل احتمال عرضٍ مغرٍ بأن تكون المدينة وأكون الدائن ، وأنا المدين أصلاً ؟ . احترتُ أيّ المعنيين تقصد ، لذا قرّرتُ الصعود إلى شُقّتها في الطابق الخامس وطرق الباب دون موعدٍ مسبق.
توسّعت حدقتاها حين رأتني أقفُ على الباب حاملاً فنجان القهوة .كانت قطرات الماء تتساقط من ذقنها ، وخصلة الشعر مبلولة :
- هل أستطيعُ الدخول ؟ " قلتُ " .
- من سمح لك بالمجيء في هذا الوقت ؟
- أنتِ طلبتِ ذلك . ألم تقولي : هل تملكُ وسيلةً للبكاء ؟! .
- وهل مجيئك هو الوسيلة ؟
- لم أقصد .
- إذن لِم جئت ؟
- جئتُ أسألكِ : أتكونين مدينة أم مدينة ؟ . أتكونين مدينتي التي أجوب طرقاتها أم أكون دائنك الذي يطرق بابك في اليوم مليون مرةً طلباً لدينه ؟! .هل أدخل لنتفاهم على هذا الموضوع ؟
- قف خارجاً لو سمحت . ثم ما هذا الذي بيدك ؟ . أرني ... قهوة ؟!!!! . مرة أخرى أيها المجنون ؟! . على ماذا اتفقنا بالأمس ؟ . ألم تعدني بعدم شربها ؟
- لم يكن الوعد على إطلاقه . قلتُ لكِ لن أشربها إلا إذا اضطُررتُ .
- واضطررتَ يا محترم ؟
- نعم سيدتي .
" رشفتُ من الفنجان ، ونظرتُ إلى عينيها اللوزيتين " .
- لا تمزح .
- إني جاد . إني مفلسٌ تماماً . لم أجد ما يؤكل عند الغداء لذا تناولت مسحوق القهوة وابتلعته .تكفّل ذلك بإطفاء رغبة معدتي في الطعام . وقت العشاء وجدتُ أن ما تبقى من مسحوق القهوة بالكاد يكفي لنهاية الأسبوع فلم أبتلع أيّ شيء . الآن أشربها . بالمناسبة .. سأذهب إلى العمل مشياً على الأقدام . لا توجد قطرة بنزين في السيارة . سأبدأ مشواري في الخامسة . طبقاً لقانون :( المسافة = السرعة x الزمن ) فإني أحتاج إلى ساعتين ونصف كي أصل . أمي أيضاً مريضة جداً ، وتريد رؤيتي . هاتفي النقّال خارج الخدمة ، فقط يستقبل و لا يُرسِل . أريدُ سماع صوت أمي . إني خائِفُ عليها. لم أسمع الأخبار اليوم : كم عدد الشهداء ؟ . هل من مجزرة جديدة نُذبحُ فيها ؟ . هل حُرِّك من ساكنٍ أم مياههم راكدة ؟ . وأنتِ ما الذي يسكبُ رغبة البكاء داخلك ؟! .أتراك تعرفين منبت الرغبة البكائية ؟! . أأنتِ مريضة ؟ ! لابد أنكِ مشتاقة لوالديك . أليس كذلك ؟!"
رشفتُ من القهوة ونظرتُ إليها . تساقطت دموعي . دخل بعضها في فنجان القهوة ، فأعدت ارتشاف القهوة . نظرتُ إليها قائلاً :
" أخشى أن تنفد الدموع . لذا أُعيدُ شربها . النعمة لا تدوم . حافظي على دموعك ، قد تحتاجينها في وقتٍ آخر . ما يدريك ؟".
كانت مشدوهة . طفرت عيناها اللوزيتان بالدموع . تساقطت قطرات الماء من خصلة شعرها . تجمّعت حول عينيها وسحبت معها الدمع . سال كل شيء وسقط على الأرض و هي تنظرُ إليّ ، لا تُحّرك شفة أو ترمش لحظة . قالت :
" كيف غيّرت الموضوع ؟ . أتملكُ الوسيلة ؟ ".
قلتُ : " أي وسيلة ؟ . هاأنتِ تبكين الآن ! " .
أسندت رأسها إلى الباب و أجهشت بالبكاء . لم أستطع لمسها . واصلت دموعي زحفها نحو الأرض و فنجان القهوة وواصلتُ ارتشافي . أتيتُ على ما تبقى من قهوةٍ ودموع . أطلتُ النظر في قاع الفنجان . رفعتُ رأسي نحوها . كانت قد توقفت عن البكاء . قلتُ:
" الآن .. رغبتك تحقّقت ، ورغبتي لم تتحقق ".
سألتْ بصوتٍ خفيض : " أي رغبة ؟! " .
رميتُ بالفنجان على البلاط فانكسر. أثار صوته رعشة في جسدينا. قلتُ بصوتٍ حازمٍ: " إجابتكِ : أتكونين الآن مدينة أم مدينة لي ؟ "