ابتسامة واسعة شقت شفتيها وهي ترى الأمطار تهطل بغزارة.. ابتسمت لها وكأنها ترحب بها، ركضت بحماس لحجرتها ارتدت ملابسها وخرجت متلهفة عينيها غائمة بشتى الانفعالات... ومع أول خطوة للشارع فردت ذراعيها ودارت تحت المطر تستقبله بين احضانها تضمه إليها وتدعه يتغلغل لقلبها ينفض عن صندوق ذكرياتها تراب النسيان... تعالت ضحكاتها البريئة المستمتعة...
ووسط ضحكاتها رأته واقفًا إمامها يحمل مظلته السوداء يضع كفه اليمنى داخل معطفه الطويل.. يبتسم لها بحب وترى في عينيه تلك النظرة التي احتارت في تفسيرها...
توسعت ابتسامته وهو يراها ساكنة متصلبة تطالعه بتعجب وحيرة... اقترب منها ببطء أشعل حواسها...وزاد من سرعة دقات قلبها وكأنه يسابقها... وقف أمامها يضع مظلته فتحتوي كليهما...
شملها بنظرة تتقد لهفة وتشتعل عشقا...
وهمس بصوت خشن رقيق داعب سمعها بحب
_لما التعجب يا صغيرة...؟ وما كل تلك الحيرة التي تغزو عينيك...؟
همست بصوت متحشرج مخنوق بغصة بكاء مؤلمة
_أهذا أنت...؟ حلما يا تُرى أم خيال..
ابتسم لها وهو يسحب كفه من جيب معطفه ويرفعه يمرره على خدها الناعم قائلا
_بل أنا حقيقة صغيرتي...؟
رمشت قائلة والدموع تتعلق بأهدابها
_هل عُدت مجددًا أمير...؟
اقترب أكثر تاركًا مظلته تواجه المطر أرضا وأحاط خديها المشتعلان من حرارة أشواقها له قائلا
_لم ابتعد يوما لأعود حبيبتي....
رفعت كفها البارد تتحسس كفه الدافئ تتأكد من كونه حقيقة... ترتجف شفتيها في رغبة مكتومة لقول الكثير..
بكت بحرقة وهي تخفض رأسها المبتلة تطبع قبلة عميقة على كفه المحتضنة وجهها وهي تقول
_اشتقتك كثيرًا زوجي الحبيب.. لا تغب عني ثانية.
اقترب أكثر وأكثر، طبع قبلة طويلة حفها بالكثير من الأشواق والحب ارتجف جسدها تحت ملمسها الدافىء الحنون...
ابتعد قليلا يهمس بعيون لامعة وصدق جعلها صامتة تستمع إليه بصمت
_أنا محفور داخلك يا صغيرة.. أنا متربعًا على عرش قلبك أتوسد عينيكِ وأغفو فوق ابتسامتك الناعمة أتهادي بين أروقة قلبك المشتعلة بعشقي... أجري في دمائك التي تطالب بالثأر لأجلي...
في كل صفحة من ذكرياتك... تجديني...
حين تضحكين ستجديني... حين ترقصين كطفلة شقية تحت المطر ستجديني احمل لك المظلة وأعاقبك بالخصام...
حين تبكين وتدمين قلبي حزنا عليك... أنا داخلك يا صغيرة لم ابتعد ولن تستطيعي إبعادي... أميرك يرافقك أينما تذهبين...
أنا ماضيك وحاضرك عشقك وعذابك..
اشتد بكائها واندفعت تريد احتضانه لكنه تسرب فجاءة وتبخر، نظرت حولها تبحث عنه بعذاب يمزق قلبها بلهفة تسكن أضلعها...
دارت برأسها ولم تجده... فهمست وهي تحتضن جسدها المرتعش
_بل كان حلمًا....
شعرت بأنفاس ساخنة تضرب جانب عنقها تقول بنغمة رائقة مشاغبة
_بل واقع يا كل الحياة...
استدارت تنظر خلفها تريد اللحاق به وخطفه من ذاك الحلم أو الدخول إليه لكنه اختفى...
شعرت بقواها تضعف وتخور فجلست على ركبتيها تضم كفيها لصدرها تهتف بعجز بألحان حزينة مع نغمات المطر الأليمة
_عد أميري.... لم أعد أحتمل البقاء وحدي.... أنهكتني الوحدة وألمني الفراق.... بالله عد يا أمير... لم أعد أنام فذراعيك لم تعد تحتويني... عد أمير....
قالتها بصرخة مجلجلة جعلت البرق والرعد يشاركنها الحزن والسماء تدمع ألما عليها...
____________جلست فوق فراشها الأبيض النظيف خصلاتها تتهدل على جبينها موشية بإرهاقها وتعبها تضع ورقة بيضاء على فخديها تحاول رسم شىء أي شىء ربما المرارة العالقة بحلقها تغادر وتتركها أو ربما تغوص بكيانها في رسماتها كما تعودت وتنسى كل شىء حتى نفسها
أجفلها بهمسه الحار خلف أذنها
_اشتقتي للرسم ياصغيرة...؟
سألها بحنان وهو يلعب بخصلاتها المرفوعة فوق رأسها... فأجابت كمن تعود وكأنه لم يظهر فجأة ويختفي فجأة
_لم اشتاق إلا لك أمير... وحدك حبيبي من تمتلك ذلك الشعور الخاص..
وضع ذقنه النامية على كتفها ثم أحاطها من الخلف وأمسك كفها المحتوية للقلم الرصاص بين أصابعها قائلا بهمس يكاد يفصلها عن الواقع
_ارسمي رفيف منزل صغير وشجرة تفاح نقطف ثمارها سويا... ارسمي رفيف نهر نرى فيه ضحكاتنا...
همست بشفاة مرتعشة تجاهد قوة بداخلها...
_وماذا عن الوطن أمير.... لم يعد لدينا وطن أرسم أحلامنا بداخله..
قالتها بطعم ألم ولسعة من أسف وحسرة قالتها ولم تتحكم بدموعها المتساقطة التي زينت كفه المرتعشة.
ارتعش نبض قلبه المذبوح.. فصمت وصمتت هي إلا من هسيس أنفاس موجعةً ودخان أسود من ذكريات حزينة
منزل يتهدم أصوات مدافع... ودماء دماء
غطت وجهها وكأن كل شىء يعاد أمامها من جديد صرخت بقوة وهي تنتفض ووجهها مبتل بالدموع وقلبها يصرخ بضجيج مكسور محجوز داخل صندوق أسود مملوء بالأسى..
هدأها قائلا بتشوش ونبرة لا يخلو منها الألم
_اهدأي رفيف أنت بخير.... ما ترينه الآن هو محض خيالات..
أغمضت عينيها قائلة بنبرة ممزقة
_لم يعد شىء بخير أمير.. غادرت أمي وتركتني أعاني وتركني أخوتي... وأنت أمير تخليت عني مثلهم... تركتني أواجه وحدي...نهض من مكانه وجلس بجانبها ضمها بقوة لصدره وجسدها لا يتوقف عن الإرتعاش... قال وهو يربت عليها كطفل باكي حزين
_أرجوك رفيف ليس بعد كل هذا..... لا تعودي للبكاء.. لقد وعدتني.. ووعدتك أنا إن توقفتي سأتي إليك...
توقفت عن البكاء منتفضة تقول بلهفة بينما تمسح دموعها الغزيرة
_ها قد توقفت لا تذهب أمير...
ابتسم قائلا وهو يداعب وجنتها برقة
_جيد فتاة مطيعة...
ضحكت بسعادة... فاقترب يمسك كفها ويشهر سبابتها في الهواء يعلق كفيهما المتعانقان في الهواء ويوحي لها بأنه يرسم قائلا
_أغمضي عينيك حبيبتي واحلُمي معي بوطن... وطن يضمنا سويا... هيا صغيرتي أغمضي عينيك وانفضي كل ذكرى حزينة مرت بك... وأبدليها بأخرى سعيدة كما حلمنا...
همست وهي تغمض عينيها بطاعة وابتسامة استسلام لذيذة
بينما تغوص بأحضانه
_حلمت يوما بوطن يحتضننا جميعا...
قالت بتأثر شديد بينما سرى خدر لذيذ في جسدها الواهن
_نعم.... أحلم بوطن عشقت ترابه... أحلم بوطن أسمع فيه صوت الضحكات لا الطلقات... أركض في حقوله الخضراء لا المدمرة المليئة بالجثث والضحايا.... وأرجوحه امير
قالتها بهمس راغب وأنين ألم يصحبها فأكملت بينما دموعها تنهمر بإنكسار
_أرجوحة جميلة تحتوينا سوينا... أحلم بوالدي ووالدتي دون ألم دون فجعة ودون دماء...
قالت بصخب وقد غاصت فالحلم
_هل تسمع أمير ضحكات أخوتي الأشقياء دون صراخ يزينها...
كم هو جميل وطني... دون عويل ودماء تصبغها وقلوب جاحدة تدمرها...
همس في أذنها وهو يتبخر ككل مره
_احلمي يا صغيرة بوطن ليس ككل الأوطان
قالت بينما بدأت تغفو في نعاس طويل بعد أنا حقنتها الممرضة بمهدىء
_سأحلم بنزهة في بلادي نغني ونرقص ونرفع العلم...
___________