المرأة الجليدية

19.2K 264 5
                                    

كان الوقت شتاء , وحين دفعت سوزان كريشتون أجرة التاكسي , كانت ندف الثلج تتساقط بكثافة , أسرعت , بعد ذلك , لتقرع جرس البيت في ألحاح , فتحت الباب أمرأة طويلة , نحيفة , ترتدي فستانا أسود وأستقبلتها مبتسمة , وقالت:
" ها قد وصلت أخيرا , كان يسأل عنك في أستمرار بينما كان الطبيب كينغستون يريد نقله الى مصح موردانت , إلا أنه يرفض الذهاب قائلا أنه يريد لقاءك أولا , أنه في حالة سيئة فعلا".
" أعرف ذلك".
أجابت سوزان وهي تضغط في مودة على يد مدبرة المنزل مدركة أن السيدة ثرستون , وهذا أسمها , ورغم مرور عشرين سنة على بدء عملها مع جدها لا تستطيع حتى الآن أن تقبل رفض السير جايلز كريشتون لأي شيء يتعارض مع رغباته.
" جئت حين أستلمت رسالتك , كيف حاله ؟ هذا شيء غير متوقع , أذ بدا أخيرا وكأنه تعافى من النوبة السابقة".
توقفت سوزان عن الكلام حين رأت أن السيدة ثرستون تهز رأسها .
" هذه النوبة أسوأ بكثير من النوبة السابقة , لهذا يريد الطبيب كينغستون نقله الى المصح حيث سيخضع للأشراف المباشر , كنت معه حين أصيب بالنوبة القلبية وظنت أنه هالك لا محالة".
" أوه تريستي! لا بد أنك مررت بوقت عصيب معه , كان يجب علي الحضور فور أنتهائي من العمل في المسرحية , أي منذ أسبوع".
قالت السيدة ثرستون وهي تساعد سوزان على خلع معطفها , وأضافت:
" قضى السيد جايلز الأسبوعين الآخرين في لندن , وحين حاولت أن أذكره بنصائح الطبيب , كاد ينفجر غضبا , منذ ذلك الحين سكت لكنني أتساءل هل في أمكانه تجنب النوبة لو ألححت عليه في اللجوء الى الراحة؟".
" لا أعتقد ذلك يا عزيزتي ثرستي , لا داع للوم نفسك".
وتنهدت سوزان وهي تضيف:
" نعرف أصرار جدي على تنفيذ رغباته , ولكن ماذا فعل في لندن؟ هل ذكر السبب؟".
" كلا , ألا أنه ظهر في شكل مختلف , ربما كان للأمر علاقة ما بالسيد مارك".
" لا أعتقد ذلك".
قالت سوزان في هدوء وأضافت:
" برغم أملي أن يحقق ذلك , والآن من الأفضل الذهاب برؤيته".
منتديات ليلاس
صعدت سوزان درجات السلم المؤدي الى غرف نوم الطابق الأول ثم سارت في أتجاه بابي غرفة النوم , وحين أصبحت على مبعدة خطوات منهما , أنفتح البابان وظهر بينهما رجل أشيب الشعر بدا متعبا وقلقا ألا أن عينيه لمعتا حين رأها , ثم ألتفت الى الغرفة التي غادرها منذ قليل.
" كيف حاله يا عم أندرو؟".
" لا أسوأ ولا أحسن".
قال الطبيب في هدوء وأضاف:
" لا بد أن وصولك سيساعده , أعطيته مهدئا وأرجو ألا تدعيه ينفعل لأي سبب سأذهب الآن لتدبير سيارة الأسعاف".
ثم توجه نحو السلم.
كانت غرفة النوم دافئة , لهيب النار في الموقد القديم يرتفع , نظرت سوزان الى جدها المستلقي في فراشه , كان شاحبا جدا , لكنها حرصت ألا تظهر قلقها وهي تخطو بأتجاه الكرسي قرب السرير , جلست منتظرة أن يفتح هينيه ويراها , غير راغبة في إيقاظه , أخيرا فتح عينيه بدتا وكأنهما فقدتا بعض بريقهما السابق , نظر السيد جايلز اليها للحظة ثم قال:
" وأخيرا أنت هنا".
حاولت سوزان تجاهل لهجته التهكمية وتذكرت ما قالته السيدة ثرستون عن ذهابه يوميا الى لندن بدون أن يحاول الأتصال بها هناك , حاولت أيضا نسيان موقفه منها منذ ولادتها , لأنه أراد أن يكون المولود الأول صبيا , وبقي شعوره هكذا حتى بعد ولادة مارك.
أنحنت وطبعت قبلة على خده وهي تقول:
" أنا الى جانبك يا جدي , هل تحتاج شيئا؟".
" كلا يا طفلتي".
بدا وكأنه يبذل جهدا كبيرا ليتحدث , أغلق عينيه مرة أخرى وبقي صامتا , كان يسترجع قواه , ثم قال :
" هل سمعت شيئا عن مارك؟".
" كلا , لا شيء أبدا".
" ليس هذا مهما , أعرف أين هو".
" هل تعرف ذلك حقا ولم تخبرني من قبل؟".
" ها أنا أخبرك يا طفلتي".
قاطعها , فهدأ غضبها وهي تتذكر نصيحة الطبيب ألا تدعه يغضب , ثم أضاف:
" أكتشفت ذلك صدفة , أذ توجب علي الذهاب الى لندن وبعد تناول الغداء في النادي , جاء لاري فورسايث , هل تذكرينه؟".
" أعتقد ذلك".
أجابت سوزان في آلية وهي ما تزال مشغولة بالخبر الذي سمعته عن مارك , ثم سألت:
" هل كان ديبلوماسيا؟".
" نعم , ولا يزال , أنه يعمل في كولومبيا منذ سنوات , وقد ألتقى مارك هناك منذ ثلاثة أسابيع".
" في كولومبيا؟".
وسألت سوزان ثم قالت:
" أنه أمر لا يصدق , هل كان متأكدا من أنه مارك نفسه؟".
" طبعا كان متأكدا , عرفه فورا , وقد تعرّف عليه مارك أيضا , وهو يتناول العشاء مع مجموعة من الأصدقاء بينهم شخص اسمه أرفاليز , وكما يتذكر لاري فان أرفاليز هو أحد المحامين المشهورين في العاصمة الكولومبية بوغوتا".
" أتذكر أن لمارك صديقا يحمل هذا الأسم , كان معه في الجامعة , لكنني لم أعرف بأنه من كولومبيا كما لم أعرف بأنه صديق مقرب من مارك".
توقفت عن الكلام مدركة أن مارك لم يكن يخبرها كل شيء عن صداقاته وعلاقاته بالآخرين.
قطبت جبينها للحظة ثم سألت جدها .
" هل أخبرك فورسايث ما يفعله مارك هناك؟".
" كلا , لا بد أنه أفترض أنني ملم بالموضوع , هل تعتقدين بأنني مستعد لنقاش قضايانا الخاصة مع الآخرين؟".
ألتمعت عينا السيد جايلز مما دفع سوزان الى الأجابة بسرعة:
" كلا , كلا , كان سؤالا سخيفا , هل تحدّث اليه مارك في أي موضوع؟".
" كلا , لذلك سألتك أذا سمعت شيئا منه , ظننت أنه بعد أدراكه لمعرفتنا بمكانه , قد يكتب اليك".
سكت الجد ليستعيد أنفاسه , سوزان شاركته السكوت مستعيدة في الوقت نفسه بعض أحداث الماضي.
في الماضي أعترض الجد بعنف على أختيارها التمثيل , لم يستطع تقبل فكرة أختيار حفيدته التمثيل كمهنة ولكنه لم يكن جديا في أعتراضه , أذ فكر أن لا ضرر في أمتهانها التمثيل لحين عثورها على زوج ملائم , أما بالنسبة الى مارك , فقد كان الوضع مختلفا حيث خطط الجد لمستقبل مارك بدون الأخذ في الأعتبار شغف مارك بدراسة الجيولوجيا ومن ثم رغبته في مواصلة دراسته الجامعية , أعتقد الجد أن دراسة الجيولوجيا لم تكن غير رغبة صبيانية وأن مارك سيتخلى عن الفكرة , ألا أن مارك أثبت عكس ذلك وتخرج ليبحث عن عمل له كجيولوجي.
وهكذا بدأت المعركة الحقيقية بين الأثنين وشهدت سوزان ذروة الخصام حين جاءت لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع العائلة ولم تستطع التدخل بين الأثنين وكانا على وشك تمزيق أحدهما للآخر.
حدثت المواجهة بينهما مساء يوم أحد أثناء تناولهم وجبة العشاء , نظرت سوزان اليهما وفكرت أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنهما يتشابهان , حيث أن كلا منهما يعتقد أنه المحق دائما وأن لا وجود لأي وجهة نظر أخرى , جلست سوزان بينهما مقاومة رغبة ملحة في وضع يديها على أذنيها لتصمهما عن سماع الأتهامات المتبادلة , بلا توقف , بين الأثنين.
" ستكون مسؤولا , هل تسمعني ؟ ما الذي تتوقعه غير منصب بائس في جامعة تتسول الصدقات قاضيا عطلاتك كدليل لعجائز في رحلات تجمع فيها الأحجار , هل هذا المستقبل الملائم لشخص ينتمي الى عائلة كريشتون؟".
" أنت تثير فيّ التقزز , أنت وأفقك الضيق وعدم أقرارك لما يفعله الآخرون , هل تعرف ما هو الراتب الذي يتقضاه جيولوجي من الدرجة الأولى يعمل في أحدى شركات النفط؟".
" هل تظن أنك جيولوجي من الدرجة الأولى؟".
ضحك السير جايلز بسخرية وأضاف:
" يتطلب الأمر سنوات لتصبح كذلك وأظن أنك ستعود الى هنا بعد عام لتستجدي مصروفك اليومي , حينئذ ستسمع أي جواب ستتلقى".
شحب مارك لدى سماعه هذه الكلمات ثم حدّق في وجه جده وقال في صوت واضح:
" أذا ما عدت في يوم ما , فسأكون غنيا , سأملك من المال ما يكفي لجعلك تبتلع كل كلمة قلتها الآن . لن أعود ما لم أحقق ذلك".
ترك مارك الغرفة وتبعته سوزان طالبة منه العودة لكنه نظر اليها وكأنه لا يستطيع رؤيتها , قالت له أخيرا:
" مارك , أنه رجل عجوز , يجب عليك معاملته بطريقة أخرى , لا تتركه أرجوك".
" هل يبيح له التقدم في العمر الحق في أن يدوس على رغبات الآخرين؟ منذ وفاة الوالد والوالدة ونحن نعاني من تعسفه , أعتقد أنني نلت الكفاية حتى الآن ولا أرغب في مواصلة ذلك طوال حياتي , يعتقد أن المال غير موجود في أي مدينة عدا لندن , سأحاول جهدي أن أثبت عكس ذلك".
ثم قال لها:
" سأعود ذات يوم يا سوزان , فلا تقلقي".
بعد أسبوع , عانى الجد من نوبته القلبية الأولى , كتبت سوزان الى مارك تخبره بما حدث , ثم حاولت الأتصال به لكنها لم تستطع العثور عليه في أي مكان , فقد أخلى شقته وأختفى , أتصلت بأصدقائه ولم ييجبها أحد بشكل واضح , منذ ذلك الوقت والأسرة في أنتظار سماع أي شيء عن مارك , وها هو جدّها , بعد ستة أشهر من أختفاء مارك , يخبرها أنه موجود في كولومبيا.
نظرت مرة أخرى الى وجه جدها , وذعرت للجفاف الذي كساه , كم يبدو متعبا ومريضا.... هل صحيح أنه في طريقه الى النهاية؟ لم يقترح العم أندرو من قبل , نقله الى المصح , لا بد أن حالته خطيرة في هذه المرة , لجأت الى الصمت وأنتظرت.
قال الجد فجأة :
" كنت على وشك الذهاب لأعادته , أعددت كل شيء للسفر , ستجدين كل شيء في درج مكتبي تذكرة السفر وحجز غرفة خاصة في فندق بوغوتا , خططت للذهاب الأسبوع المقبل الآن عليك الذهاب بدلا مني ".
للحظات ظنت سوزان أنها لم تسمع جيدا ما قاله , لكنه كرر ما قاله وأضاف:
" نعم عليك الذهاب يا سوزان , أنها الطريقة الوحيدة لأعادة مارك اليّ قبل فوات الأوان".
كانت سوزان تخبر الطبيب كينغستون بكل ما جرى لها في لقائها مع جدها المريض.
قال كينغستون بغضب:
" هذا أسخف شيء سمعته في حياتي , أنك لا تعنين ما تقولين فعلا؟".
أجابت سوزان بصوت متعب:
" هل لديّ خيار آخر ؟ أخبرتني كم هو مريض وأنه معرض للأصابة بنوبة أخرى في أي لحظة..... أنه يريد رؤية مارك قبل أن يموت وسأحاول تحقيق رغبته , ثم أن مارك وريثه ومن حقه رؤيته".
هز الطبيب كينغستون رأسه في يأس , كانا في مكتبه الخاص في مصح موردانت حيث نقل الجد منذ نصف ساعة فقط.
رافقت سوزان جدها الى غرفته لتتمنى له ليلة سعيدة , لكنه كان تحت تأثير المهدىء , لم يتعرف عليها , كل ما قاله كان :
" يا طفلتي العزيزة".
ثم صمت.
قالت سوزان:
" كل شيء مهيأ , حتى أنني حصلت على موعد , غدا , لأجراء التلقيحات المطلوبة , جوازي معد أيضا ولا أحتاج الى أية تأشيرة سفر لأنني لا أتوقع البقاء أكثر من ثلاثة أشهر".
قطب الطبيب كينغستون وقال:
" عزيزتي , أنه أسوأ شيء يمكن أن يحدث لفتاة جميلة مثلك , ما الذي كان جايلز يفكر فيه حين قرر أرسالك وحدك الى أميركا الجنوبية؟".
قالت في هدوء:
" كان يفكر في أعادة مارك".
منتديات ليلاس
ساد بينهما الصمت وأنشغل كل منهما بأفكاره الخاصة , تذكر كينغستون المقالة التي كتبها في أحدى صحف الأحد عن سوزان وكيف أن الكاتب وصفها بأنها فتاة المسرح الجليدية , ولعل الكاتب نسي أن ينظر الى عينيها وأن يحدس أية مشاعر يمكن يخفيها هذا الوجه المحاط بشعر أشقر وطويل.
قال كينغستون موجها سؤاله اليها:
" ولكن ماذا عن عملك ؟ المسرحية التي تمثلين فيها والبرنامج التلفزيوني؟".
ابتسمت سوزان وهي تجيب :
" انتهت المسرحية كما أنني أنهيت البرنامج التلفزيوني , قدم الي وكيلي الفني بعض العروض ألا أنها ليست مهمة جدا , أطمئن من الناحية العملية ليس هناك ما يؤخر ذهابي الى كولومبيا , كما أنني أفكر بعطلة أرتاح فيها من الشتاء الأنكليزي".
" أطمئني من هذه الناحية , فالجو هناك مختلف تماما".
" لن أتراجع عن وعدي الذي قطعته لجدي , خاصة أنك حذرتني من مخاطر تعريضه للغضب , أعتقد أنه الوقت الملائم لكليهما لأنهاء هذا الخصام السخيف بينهما , أنا متأكدة بأن مارك سيعود معي حالما يعرف خطورة حالة جدي".
سأل كينغستون :
" ولكن هل يتوجب عليك الذهاب بنفسك؟ أليس في مستطاع فورسايث القيام بذلك؟".
تنهدت سوزان وقالت:
" ألا ترى أن جدي يرفض تدخل أي شخص غريب في شؤوننا العائلية الخاصة , أنك الوحيد المطّلع على ما يجري بين أفراد العائلة , وكل شيء مهيأ لسفري , كل ما عليّ عمله هو معرفة مكان عائلة أرفاليز , ثم أقناع مارك بالعودة , هذا أذا أراد رؤية الجد حيا , أعتقد أن بقائي في العاصمة سيكون قصيرا".
أومأ الطبيب كينغستون برأسه بينما واصل تحريك قلمه في هدوء , ثم قال:
" يا طفلتي العزيزة , ما الذي تحاولين أثباته؟".
رأى تغير لونها وسمعها تقول:
" ليس من العدل أن تقول ذلك".
" أنها الحقيقة يا سوزان , أجيبيني".
منتديات ليلاس
نهضت سوزان عن كرسيها وسارت في أتجاه النافذة لتحدق في الظلام , قالت:
" هل تعرف أن الثلج لم يتوقف عن السقوط".
ثم أضافت بنبرة مختلفة:
" ألا تدرك كم هو مهم بالنسبة اليّ ؟ أنها المرة الأولى التي يطلب فيها مني تنفيذ شيء له , كان هو الشخص الواهب دائما ولم يتوقع , مقابل ذلك , أي شيء مني لأنني ببساطة , فتاة".
" لكنه فخور بك , وها أنت تثبتين أهميتك على المسرح , لا بد أن ذلك أمر يفرحه".
" أعتقد جدي دائما أن للمرأة مكانا واحدا هو البيت وليس المسرح , وأن مهمتنا الأساسية هي الزواج وأنجاب الأطفال , ومن الأفضل أن يكونوا ذكورا".
" سوزان , ما تقولينه مجرد هراء".
" كلا , أنها الحقيقة, وكلانا يعرفها , لقد غفر منذ فترة طويلة لأنني أمرأة , ألا أنه لم ينس ذلك , والفرصة الوحيدة هي المتاحة الآن لأرد له بعض فضله عليّ , أنني في حاجة اليه , والى أمتنانه , وهذا ما لن أحصل عليه أذا لم أساعده في أعادة مارك , وأنا بحاجة الى مساعدتك لأعطائي حقن التلقيح الضرورية بدلا من الطبيب الآخر , تعرف كم أخاف من حقني بالأبر".
لم يبق أمام الطبيب كينغستون غير القبول بالأمر.
" أذا كان هذا قرارك الأخير , لم يبق أمامي سوى تنفيذ ما تطلبين"
أراحت سوزان رأسها المتعب على زجاج نافذة التاكسي وحدقت في المطر المتساقط بغزارة وتمنت لو أنها بقيت فترة أطول في الفندق لتأخذ قسطا أوفر من الراحة , لكن لم تبق غير فترة قصيرة سجلت فيها أسمها , تركت حقائبها في الغرفة ثم طلبت من كاتب الأستقبال عنوان السنيور أرفاليز , ولدهشتها تم تنفيذ كل ذلك في دقائق , حيث أعطى الكاتب العنوان الى أحد السائقين وطلب منه أيصال السيدة , لاحظت سوزان بيوت ضواحي بوغوتا الضخمة وأحست برعشة برد تسري في جسمها برغم أرتدائها بدلة من الصوف الناعم ذات لون يناسب بشرتها , لا بد أن لأختلاف مناخ بوغوتا عن مناخات بقية مدن أميركا اللاتينية علاقة بأرتفاع المدينة ثمانية آلاف قدم عن مستوى سطح البحر , تذكرت كيف مرّ الأسبوع السابق لسفرها في سرعة , قضت معظم الوقت في زيارة جدها وأعداد حقائبها , وهكذا لم تجد فرصة ساعة للقراءة عن بوغوتا وأحوال العيش فيها.
وكما توقعت , فحالما أستعاد جدها وعيه في اليوم التالي وعلم أن صحته أفضل , طلب منها الغاء السفر لأنه يود القيام به بنفسه فيما بعد , ولم يتراجع عن قراره ألا بعد أن أخبره الطبيب كينغستون أن شفاءه يتطلب أشهرا عدة , وحتى بعد سماعه ذلك , بقي متحفظا لفكرة سفر سوزان , وحذّرها قائلا:
" أن المجتمع في كولومبيا محافظ حيث للمرأة مهمة تعرفها وتحافظ عليها".
" ألم أفعل الشيء ذاته دائما".
تساءلت سوزان في لهجة متهكمة:
" أنك فتاة طيبة , إلا أنك جميلة جدا أيضا , وأنت مقدمة على الأختلاط بمجتمع رجال مختلفون , هل فكرت في ذلك جيدا؟".
أجابت سوزان:
" أعتقدت دائما أنهم يهتمون بالذهب أكثر من الأنتصارات العاطفية , ثم أنني قادرة على الأهتمام بنفسي خاصة وأنني أعمل في المسرح , ويطلقون عليّ لقب (افتاة الجيليدية)".
" هراء , أليس لكاتب المقالة علاقة بك ؟ ما الذي حدث , هل تخاصمتما؟".
سكتت سوزان للحظة , لم يكن في مستطاعها أخبار جدها العزيز الحقيقة , حقيقة أن لي , كاتب المقالة , وبعد أن أكتشف فشله في أغوائها , أطلق عليها ذلك اللقب , تذكرت كم كانت فخورة بصداقته وخاصة أنه كان من نقاد المسرح اللامعين , ثم كيف تطورت علاقتهما الى حد أصبحت معه ضرورة يومية وكيف أنه قبل بشروطها بعد أن أدرك أنها لن توافق على كل ما يريده منها ما لم يوهمها بحبه وتعلقه بها , وقد صدّقت اللعبة ودعته لزيارة جدها , صحيح أن جدها تصرف بطريقة مهذبة وأبدى أهتمامه به , غير أنه لم يستطع أخفاء مشاعره الحقيقية وعدم موافقته على علاقتها به, علّلت سوزان نفسها بأنهما في حاجة الى وقت أطول ليفهم كل منهما الآخر خاصة وأنهما ينتميان الى جيلين مختلفين تماما , ثم حدثت الصدمة الكبرى حين دعاها لزيارة عائلته وفرحت هي لذلك , ألا أنه قضى نصف النهار يسوق السيارة في طريق مجهولة وأخيرا وصلا الى كوخ ريفي ناء لا يسكنه أحد , وحين واجهته بأتهاماتها , أعتذر وبرر الخطأ بسوء التوقيت , ألا أنها ومنذ تلك اللحظة فقدت ثقتها به ولم تعد تفكر فيه كأنسان محترم , ظهرت مقالة ( الفتاة الجليدية ) بعد أسبوعين من تلك الحادثة , صحيح أنه حاول جهده بجعل المقالة موضوعية , غير أنه أستخدمها بذكاء في مهاجمتها وأتهامها بالسذاجة والضحالة.
" نعم , لقد تخاصمنا".
" حسنا , لا أعتقد أنه خسارة كبيرة , لسبب ما لم أستطع تقبل وجوده".
أومأت برأسها في صمت وشعور بالعزلة يجتاحها.
تظاهرت في الأسابيع التالية أنها تفضل البقاء وحيدة وأقنعت نفسها بموقفها من لي مفضّلة الأعتزال على أن ترضخ لمطالبه التي لم تستسغها , ولجأت في وحدتها الى الجد ومارك , ولكن ما حدث بعد ذلك بين مارك والجد أدى الى زيادة عزلتها.
حاولت سوزان التخلص من هذا الماضي كله من خلال نظرة متفحصة على مسار السيارة , بدا وكأن الأسلوب المعماري في شوارع المدينة خليط من ناطحات السحاب وأبنية تشير الى الطراز الأسباني القديم , أضافة الى أقواس وأعمدة الكنائس , قررت بأنه مكان مثير للأهتمام ومن المؤسف أنها لن تستطع البقاء فترة أطول وأملت في المكوث فترة ما , بعد العثور على مارك وأقناعه بالعودة الى بريطانيا.
بدأت المشاهد تتغير كلما ابتعدت السيارة عن المناطق التجارية في أتجاه الأحياء السكنية , لم يكن هناك ما يدل على الفقر بل العكس فأن البيوت وحدائقها الجميلة عكست هدوء ورخاء المنطقة , وأيقنت أن عائلة أرفاليز تنتمي الى هذا العالم الغني , حين توقفت السيارة أمام أحد البيوت.
طلبت من السائق أنتظارها وتقدمت لترق الباب , كان البيت جميلا له سقف منخفض تحيط به النباتات المتسلقة وأزدهرت الورود على جانبي الممر المؤدي الى الباب الأمامي , تمنت لو أن مارك موجود هنا كي تستطيع العودة معه حالا ما دام التاكسي في الأنتظار.
فتحت الباب أمرأة ضخمة ترتدي فستانا أسود مغطى بصدرية بيضاء , نظرت الى سوزان في أرتيب , تذكرت ما قرأته في كتاب ( تعلم اللغة الأسبانية ) وسألتها عما أذا كان في أمكانها التحدث الى السنيور أرفاليز.
صمتت للحظة حين رأت الأستغراب المرتسم على وجه المرأة لكنها فتحت الباب لها لتدخل , ثم قادتها عبر صالة كبيرة الى غرفة الأستقبال حيث طلبت منها الأنتظار.
كانت الغرفة مؤثثة في شكل فاخر ومريح , ألا أنها شعرت بالقلق ولم ترغب بالجلوس بل بقيت واقفة في أنتظار رؤية السنيور , أضافة الى ذلك فأنها شعرت بصداعها يزداد سوءا.
( أنني حمقاء ) قالت لنفسها , كان علي البقاء فترة أطول في الفندق لأتناول شيئا من الطعام ولأتناول قسطا من الراحة , لكن فكرة تناول أي طعام , برغم جوعها , لم تبد مستساغة لها وشعرت بأمتنان غريب حين أنفتح الباب أخيرا.
دخلت الغرفة أمرأة قصيرة القامة , تبعتها شابة تشبهها الى حد أنهما بدتا لسوزان أما وأبنتها , رغم أختلاف الملابس , حيث أختارت الشابة ملابس ثمينة وبسيطة بينما فضلت الأم أظهار غناها بأرتدائها فستانا أسود زاد من بريق العقد الماسي والخواتم التي أرتدتها , تقدمت الفتاة خطوة الى الأمام لتقول في لغة أنكليزية متعثرة:
" والدي غير موجود في البيت الآن لذلك ترجو والدتي أن تكون قادرة على مساعدتك , أنها لا تعرف اللغة الأنكليزية , والآن كيف نستطيع مستعدتك يا سنيورا؟".
" أسمي سوزان كريشتون , كنت آمل العثور على أخي هنا أو ربما تساعدونني في العثور عليه".
توقفت سوزان لتعطي الفتاة فرصة ترجمة ما ذكرته للسبيورا , ثم تقدمت سنيورا أرفاليز نحوها ورجبت بها , لم تفهم سوزان كلمة واحدة مما قالته السنيورا ألا أنها أدركت ترحيبها بوجودها بينهم , وأبتسمت أستجابة لذلك.
تقدمت الفتاة وقالت:
" أنت أذن أخت ماركوز , أنا أيزابيل , ربما ذكر اسمي أمامك من قبل".
" لم ي1كر مارك أي شيء لأنني لم أسمع عنه منذ أشهر , لذلك جئت للبحث عنه لأن جدنا مريض جدا ويود رؤيته".
بدت أيزابيل في حيرة:
" ولكنه ليس هنا , لقد غادرنا منذ ثلاثة أسابيع ليعود الى بريطانيا , ألم يعد بعد؟".
شعرت سوزان بالحزن ينتابها , أذن سفرتها كانت عبثا , ربما عاد مارك فعلا الى بريطانيا في الوقت الذي جاءت فيه الى هنا , ربما عاد لرؤية الجد وهو معه الآن.
" تبدين شاحبة يا سنيوريتا".
ألحّت أيزابيل , وطلبت منها الجلوس , سرت سوزان للدعوة لأنها أحست بأن ساقيها تخذلانها , سألت سوزان:
" لكنه كان معكم!".
" نعم , جاء مع ميغيل لأنه يحب دعوة أصدقائه الى البيت".
" ربما كان ميغيل على معرفة بمكان مارك , هل أستطيع التحدث اليه؟".
" أنه ليس هنا , ذهب الى كارتاغينا للبقاء مع عائلة خطيبته".
تدخلت الأم في حديثهما طالبة من أيزابيل توضيح الموضوع لها , وأثناء قيام أيزابيل بالترجمة , بقيت سوزان صامتة تفكر بما ستفعله فيما بعد.
أفترضت سوزان أن عليها الأتصال بالمصح لتسأل عن صحة جدها وعن وصول مارك , ربما كانت هناك طريقة تستعلم من خلالها أذا كان مارك قد ترك البلاد فعلا , عليها أن تلتقي بارفاليز لتسأله عن أي أقتراح آخر.
رفعت رأسها فأذا بها تشعر بدوار غريب مما دفع الأم للسؤال عما بها وهرعت أيزابيل الى جانبها.
" ماذا جرى ؟".
" أعتقد أنني سأتقيأ".
كانت الساعات التالية كابوسا متواصلا عاشته سوزان , تذكرت كيف نقلت الى غرفة النوم في الطابق العلوي , ثم ساعدتها فتاة أسمها دولوريس على خلع ملابسها ووضعت أناء كبيرا قربها , واصلت سوزان التقيؤ فيه بينما أعدت دولوريس كمادات باردة وضعتها على جبينها.
أرادت سوزان التعبير عن أمتنانها لدولوريس لكنها أيقنت عبث المحاولة , فكلما حاولت رفع رأسها عن الوسادة أنتابتها الحالة نفسها من جديد , الى أن أستسلمت أخيرا لنوم عميق.
حين فتحت سوزان عينيها أخيرا كان الظلام سائدا , تحركت في فراشها بهدوء خوفا من أن تتقيأ , ألا أنها شعرت بتحسن كبير حالما جلست فتحت أيزابيل الباب:
" أستيقظت؟ هل تشعرين بالتحسن وهل تريدين التحدث الى والدي؟".
أومأت سوزان رأسها بالموافقة وقالت :
" آسفة لأنني سببت لكم كل هذه المتاعب".
" لم تسببي أية متاعب لنا , أنه الأرتفاع عن مستوى سطح البحر , غالبا ما يعاني السواح من الظاهرة نفسها ألا أنهم يعتادون الجو بسرعة".
جلبت أيزابيل شالا واسعا ووضعته في عناية على كتفي سوزان وعادت لتفتح الباب لوالدها.
كان السنيور أرفاليز متوسط القامة , له وجه ذكي ومرح , حيّا سوزان ثم جلس على كرسي مجاور لسريرها , ألا أن ما أثار دهشة سوزان هو بقاء أيزابيل في الغرفة برغم عدم ضرورة ذلك .
بعد تبادل كلمات الترحيب العادية , أنتقل أرفاليز الى الموضوع الأساسي مباشرة:
" آسف لأننا لا نستطيع أخبارك شيئا جديدا عن أخيك , كل ما نعرفه هو أنه توجه عائدا الى بريطانيا".
ثم نظر الى سوزان في عطف وقال:
" صدقيني , أتمنى لو أستطعت مساعدتك , ألا أن مارك بقي هنا فترة قصيرة ثم غادرنا , زيارته كانت أقصر مما توقعنا وتمنينا , لأنه علم بذهاب ميغيل الى كارتاغينا".
" ألم يخبر مارك أحدا عن رغبته البقاء في كولومبيا؟".
" كلا , أثناء بقائه معنا , زار مع ميغيل أماكن عدة , أعتقد أنه شاهد ما يكفي في كولومبيا".
فكرت سوزان بضرورة العودة الى بريطانيا والأعتراف بفشلها ولكن ما الذي سيحدث لجدها؟ لا بد أن تفي بالوعد الذي قطعته على نفسها.
" ما رأيك في البقاء معنا لأيام يا سينيوريتا؟ نحن على أستعداد للترحيب بأخت ماركوز في بيتنا".
" ولكنني لا أستطيع البقاء فترة أطول , يكفي ما سببته من متاعب حتى الآن".
ثم تذكرت التاكسي الذي ينتظرها في الخارج , ضحك أرفاليز وأخبرها أنه دفع الأجرة كما أنه أتصل بالفندق ليطمئنهم.
منتديات ليلاس
حين أبتسمت سوزان لما ذكره عن قلق أصحاب الفنادق , قال أرفاليز :
" ألا تصدقين ذلك ؟ تذكري أنك في كولومبيا وليس في بريطانيا , في تاريخنا أحداث دموية وبعض الأحداث جرت مؤخرا , أعتقد أنه من الأفضل لك البقاء معنا وفي صحبة زوجتي وابنتي الى أن توصل الى معلومات أكثر عن ماركوز".
كانت لهجته حاسمة , فكرت سوزان أنها اللهجة ذاتها التي يستخدمها عادة أذا ما أسدى نصيحة غير مرغوبة الى أحد المتاجرين معه.
" حسم الأمر أذن".
نهض أرفاليز عن كرسيه , ثم قال :
" أستريحي يا سينيوريتا , وسنقوم بالترتيبات اللازمة , أما الآن فأن دولوريس ستجلب لك بعض الحساء".
حيّاها ثم غادر الغرفة تتبعه أيزابيل وقد أرتسم على وجهها يدل على تفكير وأنشغال.
كان الحساء لذيذا , أستغربت سوزان لشهيتها برغم مرور وقت قصير على تخلصها من آلام التقيؤ ,وحين سمعت أحدهم يطرق الباب , ظنت أنها دولوريس قادمة لتأخذ صينية الطعام , لكنها دهشت لرؤية أيزابيل بديلا منها.
أبدت أيزابيل أعجابها للسرعة التي أستعادت فيها سوزان صحتها , ثم جلست على الكرسي المجاور في وضع يدل على توترها وقلقها.
" هل كل شيء على ما يرام".
سألت سوزان مقاطعة تعداد أيزابيل للمتاحف والأماكن الممكنة زيارتها أثناء وجودها ي بوغوتا.
تساقطت دموع أيزابيل فجأة وهي تجيب:
" كلا , لا أدري ماذا أريد أن أقول".
" أخبريني أرجوك , وأعد بأنني لن أخبر أحدا ما ستقولين , هل تعرفين أين ذهب أخي؟".
" ربما , هذا كل ما أستطيع قوله , أنا على وشك أخبارك بشيء مخجل , أنني أحب أخي كثيرا لكنه أناني ولا يرغب في صحبتي , خاصة أذا جاء الى البيت مع أحد أصدقائه فأنه يأخذه مباشرة الى غرفته بعيدا عن الجميع , ولكنني لوجود باب يفصل بين غرفته وغرفتي , أستطيع سماع محادثاتهم وتعليقاتهم".
أحمر وجه أيزابيل بعد هذا الأعتراف ثم أكملت حديثها:
" أنني أشعر بالخجل لذلك الآن , لكنني أعتدت الضحك على ذلك من قبل لأعتقادي بأنني أشارك أخي مع أصدقائه أسرارهم".
" سمعت أذن حديثا خاصا بين بمارك وميغيل , أليس كذلك؟".
" نعم , وأدركت أن والدي سيغضب أذا علم بذلك حيث تحدث ميغيل عن أشياء محرمة".
" أشياء محرمة؟".
" الزمرد! حيث أن مناجم الزمرد في كولومبيا هي من أشهر المناجم في العالم وهي مصدر الثروة الوطنية للبلد , ولكن الأمر يتحول الى خسارة كبيرة أذا تم تهريب الزمرد خارج البلد , هل تفهمين ما أعني؟".
" تهريب؟ هل تعنين أن مارك وميغيل كانا يتحدثان عن تهريب الزمرد الى الخارج؟".
" نعم , وفهمت من حديث ميغيل أنه غالبا يقوم بذلك , أذا عرف والدي بالأمر فأنه سيغضب كثيرا لأن القانون بالنسبة الى والدي هو كل شيء وسيعتقد أن ميغيل بسلوكه هذا أساء الى كرامة العائلة".
" هل تعنين أن ميغيل أقترح على مارك العمل كمهرب؟".
" كلا , بدا وكأنه يحذره حيث أن عددا من الأشخاص مات بسبب الزمرد أنه عمل خطير , وأخبره بأنه يظن أن سلوكه جنوني ولكن ماركوز أجابه قائلا:( لن تظنني مجنونا أذا عدت ومعي لهيب ديابلو)".
سألت سوزان :
" ما هو لهيب ديابلو".
" أنها أسطورة سمعتها حين كنت طفلة , يقال أن في مكان ما في التلال الشمالية يوجد منجم يحوي من الزمرد ما يساوي الملايين , ويقال أيضا أن أي أنسان لم يعثر على هذا المنجم منذ أيام الدواردو , أي منذ عهد الأنسان الذهبي أثناء أعتاد تزيين نفسه بزمرد ديابلو".
" ديابلو , أذن , أسم مكان ما؟".
" نعم , وسمي كذلك لأنه مكان الشيطان , الكثيرون يبحثون عن منجم ديابلو والشعلة الخضراء المحترقة ألا أنهم لا يعودون , يقول والدي أن السبب بسيط فهو مكان خطر حيث الأرض زلقة والأنهار ذات تيارات خطيرة وهناك أسماك صغيرة بالملايين تستطيع ألتهام حصان وراكبه قبل أن يلفظ الراكب كلمة أخيرة , كما أن هناك نمورا قاتلة وثعابين كثيرة , أضافة الى كل هذا , هناك رجال أشرار , قد يكون كل هذا صحيحا ولكن التفسير الآخر للأسطورة هو حراسة المنجم من قبل رموز غامضة".
منتديات ليلاس
ورغم كل ما حاولت سوزان التظاهر به من رباطة جأش , فأن رعشة خوف سرت في جسمها كله , كان من السهل القول أن ما ذكرته أيزابيل مجرد هراء لو أنها سمعت ذلك في بريطانيا , ولكن , في هذه المنطقة النائية وحيث الكل يعتقد بالأساطير لم يكن سهلا عليها تجاهل خطورة ما أقدم عليه شقيقها.
سألت سوزان:
" وأنت تعتقدين أن مارك ذهب الى ذلك المكان المخيف؟".
" في البداية ظننت أنه أهمل الفكرة لأن أخي نصحه كثيرا , أما لدى سماعي ما قلت عن عدم عودته الى بريطانيا , فأظن بأنه نفذ ما تحدث عنه , كما أعتقد بأنه أخبر ميغيل عن عودته الى بريطانيا ليريحه وكي لا يدفعه للشعور بالندم لأنه أخبره بالأسطورة , أعتقد أنه لم يتبادر الى ذهن ميغيل أن مارك سيصدقها".
" مارك جيولوجي ولا بد أنه يعتقد , أذا كان المنجم موجودا , فمن المحتمل أن يعثر عليه".
ثم خاطبت نفسها قائلة:
" هذا أذا لم يمت قبل ذلك , غرقا أو قتلا أو سقوطا من حافة جبل , ألم تقرأي في مكان ما عن وجود عصابات تهاجم المارة في الطريق المهجورة؟".
" ما الذي ستفعلينه سنيوريتا؟".
" لا أدري".
قالت سوزان في عجز ثم أضافت:
" أنه ليس لدينا ما يثبت ذهاب مارك أو الجهة التي توجه اليها برغم أحتمال ذهابه الى المنجم".
صمتت سوزان لحظة لتتذكر كلماته التي وجّهها الى الجد:
" أذا عدت ذات يوم فأنني سأكون غنيا وسيكون لدي من النقود ما يكفي لجعلك تبتلع كل كلمة تلفظت بها , لن أعود ما لم أحصل على ذلك؟".
لا بد أن مارك ومن خلال ميغيل عرف بوجود منجم الزمرد الذي سيحقق أمانيه , ومن خلاله أيضا عرف كيفية تهريب الزمرد أذا عثر عليه , أنها تعرف عناد مارك وتعرف أيضا أن ذلك صفة متوارثة في العائلة.
أبتسمت سوزان لتطمئن أيزابيل , ثم قالت:
" علي أن أعود الآن الى بريطانيا , أذ لا فائدة من بقائي , وفي أي حال , ربما عاد مارك الى هناك وما نتحدث عنه الآن هو مجرد وهم , كما أنني سأبلغ السلطات المحلية عن أختفاء مارك كي تبحث عنه , عدا هذا , لا أعتقد أن في أمكاني القيام بأي شيء آخر".
وافقتها أيزابيل ولكن سوزان كادت أن تضعف وتخبرها بحقيقة نيّتها في التوجه بنفسها , صباح اليوم التالي الى ديابلو , لكنها تحكمت في مشاعرها خاصة وهي تعلم مقدار خوف أيزابيل من والدها , الأمر الذي يدفعها للبوح بما ستقدم عليه.
أقنعت سوزان نفسها أن ما تفعله هو الشيء الصحيح , وذلك لتجنب عائلة أرفاليز القلق عليها وعلى أخيها , لكنها كانت مقتنعة في أعماقها أن هذا ليس الحقيقة كلها وأنها هي الأخرى تحمل عناد العائلة المتوارث بين عواطفها.
أنا ذاهبة الى ديابلو , أسرّت لنفسها , حتى لو تطلّب الأمر مواجهة الشيطان نفسه.

حتى تمو ت الشفاه - سارا كريفن - روايات عبيرالقديمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن