لحظات قليلة .. قبل أن تدخل الفتاة أخيرا إلى مكتبي .. كانت رقيقة وهشة للغاية .. خائفة ومرتكبة بشكل ملحوظ .. نحيلة إلى حد ملحوظ ايضا .. وشعرها مربوط على طرقة ذيل حصان الشهيرة .. إنها في بدايات سن المراهقة .. ربما لا يتجاوز عمرها الثانية عشر بالفعل كما قالت الممرضة .
شعرت بتعاطف كبير أمـام نظراتها القلقة الباحثة عن الأمان ! ! ! .. وكأنها تنتظر موقفاً مناسباً كي تبكي بسببه .. لذا فقد نهضت من مكتبي وتوجهت ناحيتها لأصافحها بأبتسامة عريضة وأمسح على رأسها لأشعرها بالأمان .. تماما كما نفعل مع الاطفال الصغار .. ثم طلبت منها أن تجلس وتسترخي .. فجلست بشيء من القلق .. وراحت تنظر إلي بتردد واضح .. لتقول أخيرا بتوتر شديد لا يتناسب أبدا مع صغر سنها :
- عـ .. عـ .. (عمّي) .. أرجوك ساعدني .. أنا لا أعرف أين أذهب ! ! !.
قلت لها بابتسامة عريضة وقد بدا لي قلب (عمّي) هذا مضحكا إلى حد ما :
- انا هنا لمساعدتك يا (إبنتي) .. ماذا تريدين ؟!.
لم أخاطب أحد من قبل بلقب (ابنتي) أو (ولدي) .. لذا بدا لي الأمر غريبا إلى حد ما .. المهم أنه بعد كلماتي تلك .. انهمرت دموع الفتاة بشكل مفاجئ وسريع ! ! ! .. تماما كما توقعت .. وكأنها كانت تبحث عن الحضن الدافئ الذي تستطيع اللجوء إليه .. وقد وجدت هذا في شخصي المتواضع كما يبدو ! ! !.
نهضت من مكاني مرة أخرى .. وذهبت لأربت على رأسها مهدئا .. لكن الفتاة نهضت من مكانها أيضا وراحت تحتضنني بحرارة وهي تجهش بالبكاء وبشكل أثار شفقتي كثيرا حتى دمعت عيناي تأثرا ! ! .. يا إلهي .. أي مأساه تمر بها هذه الصغيرة ؟؟!.
رحت أحتضنها بتأثر شديد وأحاول تهدئتها .. ثم طلبت منها أن تذهب لتغسل وجهها كي تتمكن من الكلام وتشرح لي سر مجيئها .. فنفذت ما طلبته منها .. لتهدأ أخيرا بعد دقائق قليلة .. وأجد الفرصه سانحة لأسألها :
- ما بك يا صغيرتي ؟؟!.. لماذا خرجت من البيت وحدك ؟!.. أين والدك؟!.
نظرت إلي بحزن شديد .. ثم قالت بتلعثم واضح :
- إنني .. لقد .. لقد هربت من البيت ! ! ! .. والداي .. والداي توفيا منذ زمن بعيد .. بعد ولادتي بشهور قليلة في حادث سير .
سألتها بتعاطف :
- إذا .. أين تعيشين الآن؟!!.. ولم هربت يا عزيزتي ؟!..
قالت بأسى :
- أعيش عند خالتي .. وقد .. وقد هربت منها ! !..
طلبت منها أن تخبرني بتفاصيل قصتها ووعدتها أنني سأصغي إليها وأقف إلى جانبها وأساعدها بكل ما أستطيع .. فنظرت إلي طويلا وكأنها تزن أمرا ما في عقلها .. ثم تحمست أمرها أخيرا .. وراحت تروي قصتها قائلة :
- (عمّي) .. إنني في الثانية عشرة من عمري .. وقد توفي والداي في حادث سير كان عمري لا يتجاوز بضعة شهور كما قلت لك .. فأخذتني خالتي المطلّقة لأعيش عندها منذ ذلك الحين .. حيث قامت بتربيتي طوال تلك السنوات .. إنها غريبة الاطوار .. طوال حياتها تكره الرجال كثيراً إذ عانت حياة قاسيه للغاية مع جدي الذي كان يرتكب كل الخطايا .. ويعود بعدها إلى البيت فيوسع جدتي وخالتي ضربا ويسيء إليهما بكل الوسائل .. حتى ماتت جدتي قهرا بسبب سوء معاملته لها .. أما خالتي .. فاستمر جدي يسيء معاملتها ويضربها أحيانا كثيرة لأسباب تافهه للغاية .. لقد كان .. لقد كان ساديا!!!.. نعم .. هذه الكلمة ذكرتها لي خالتي أكثر من مرة .. وقد أخبرتني أيضاً أن جدي قام بتزويجها لصديق له يكبرها بـ 20 عام على الأقل .. ولم يكن هذا الصديق أقل سوءا من جدي .. إذا راح يتفنن في ضرب خالتي .. ويفعل ما يفعله أي زوج يعود إلى البيت في وقت متأخر وبعقل غيبته المخدرات تماما .. إلى أن مات بعد سنوات بجرعة زائده .. مات معدما غارقا في الديون بسبب ما أنفقته على المخدرات و ...إلخ
أنت تقرأ
هاربه ( ترويها : خلود )
Mystery / Thrillerتأليف : م.عبدالوهاب السيد الرفاعي . تصميم و إخراج: نوڤا بلس للنشر والتوزيع .