1

143 19 5
                                    



كان الليلُ محيطًا بالمدينة، حيث عمّ السكون في بعضِ شوارعها، في حين علتِ الضوضاء أماكن كثيرة فيها، فبينما يهمسُ النسيم البارد بتراتيلِ الشتاء المُقبل، يقضي أناسُ ذلك الزمنِ أمسياتٍ صاخبة لا تتوافق و الجوّ الهادئ الذي يحيط بهم، مستغلّين أوقاتهم في البحثِ عن المتعة و اللذة.

و قد يكون حريًّا بي أن أحدّثكُم عن تلك المدينة و كيف يعيشُ أهلها، و لكن، هل تجيد كثرة الثرثرة في إيصالِ الفكرة لكم على النحو المطلوب؟ هل سيفيدُ الإطناب في رسمِ الفكرة المنشودة في عقولكم؟

قد يكون ذلك جيدًا، لكنني أفضل ترككم تشاهدون ما رأتهُ عيناي، و ما اتّسع له خيالي الرحب من صور، لتلامس الفكرة أفئدتكم، و لتطرق أبواب استيعابكم فيحصل المرغوب.

وقف بطلُنا الشّاب مستندًا على حافّة جسرٍ معلّقٍ على نهرٍ ضحلٍ، يناظرُ الأفق بشرودٍ مفكِّرًا، و قد يتبدّى للناظرِ أنه يشغلهُ أمرٌ جلل، لكنّه في الواقع لم يكن يفكّـر في أمرٍ ذَا شأن، فلم يكن متزوجًا ليفكر في زوجهِ و أسرته، و لم يكن عاملًا ليفكر في عملهِ، و لا دارسًا ليفكر في دراستهِ، في الحقيقة، لقد كـان ذلك الشّاب 'لا شيء' لأنه لم يكن له شيّءٌ يذكر يمكن أن يصبح بهِ 'شيئًا' ذَا شأنٍ وسط الجموع، لكنه مع ذلك كـان يفكّر في كل شيّءٌ.

في ذلك الجوّ البارد، كانت النسائم تلفحُ تقاسيم وجههِ البارد، الذي كان ساكنًا على نحوٍ عجيب، سكونًا مشابهًا لسكون الطبيعةِ من حولهِ، سوى من بعض الضوضاء التي كان البشر يحدثونها، فبينما هو واقفٌ لحظتاك، إذ استمع لحركةٍ قريبةٍ منه، فلمـا التفت وجد أنها امرأةً أربعينية، تمشّي مترنّحةً مشيةً تظهر بوضوحٍ أنها ثملة، لاحظها بتفحّصٍ محاولًا استشفاف شَيْءٍ من ملامحها، فلم يبن له منها شيّءٌ، حتى مرّ بها رجل يمشي بتؤدة، فمازحتهُ بشتيمةٍ ضاحكةً بوقاحة، و ما كـان من الرجل إلا أن دفعها عَنْهُ بقوة، و اكمل طريقة مبتعدًا عنها..

التفت الشّاب موليًا إياها ظهرهُ ناوياً المغادرة، إلى اللامكان، يتمشّى بمفردهِ وسط شوارعِ المدينة الغريبة، حيث وجد نفسه منذ شهرٍ هنا، دون أن يفهم كيف حصل ذلك و لم؟

كـان يراقب موطئ قدمهِ التي ترتدي نعلًا متّسخًا، يحيطُ به بشرٌ مختلفون، أطفالٌ يلعبون بألواحِ تزلجٍ ذات تقنيةٍ عالية، نساءٌ متبرجّاتٍ كالوحوشِ من شدّة تغيّرهنّ، رجالٍ تسيطرُ على مخيّلتهم رقائق إلكترونية مغروسة في عقولهم، تحملهم على الانشغال بها عن كل شيّءٌ..

و كـان مع ذلك ينظر إلى نعلهِ المتّسخ ..

أكمل سيرهُ بلا هوادة، كما يحصلُ معه يوميًّا منذ شهر، لا يشعر بشيءٌ سوى بفراغٍ عظيمٍ اقتحم روحهُ دون أن يفهم له تفسيرًا، و لا أن يعلم له تأويلًا، إنما كـان يتمشّى و حسب، و لا يفعلُ أمرًا ذَا شأنٍ سوى أنه يراقبُ الحيـاة عن كثب.

الغريبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن