«مقدمة»

1.2K 99 91
                                    

بعد ابتلاع نسيم الدواء الذي أخبرها طبيبها أنه سيساعدها، ألقت بحمل جسدها المتألم على سريرها، لكنها سرعان ما قامت مدفوعةً بقلقٍ أمومي لتتأكد من كون جميع أولادها بخير، ها قد غطت ريما الرضيعة في النوم، وبإمكانها أن تسمع صفوان ومنى يصرخان ببعضهما في غرفتهما، دخلت إلى الغرفة فرأتهما على الأرض في خضم عراكٍ طفولي عنيف، فحملت ابنتها ووضعتها في السرير، مقبلةً رأسها وهي تقول:

«حبيبتي منى، لا تضربي أخاكِ بهذه الطريقة مرةً أخرى! ألا يكفي هذا؟ قد تؤذين نفسك.»

أدارت الطفلة عينيها عاقفةً شفتيها بملل، حملت نسيم ابنها ووضعته في سريره أيضًا، وقبلته هو كذلك ثم قالت:

«عزيزي صفوان! ليس عليك أن تضرب أختك، ليس الرجل من يضرب الفتيات.»

خرجت من الغرفة ودخلت غرفة ابنها الأكبر وذا الأعوام الثمانية بعد العشرة، علي. فأخفى الأخير هاتفه بين كتبه مدعيًا أنه يذاكر، تنهدت نسيم، ثم أعادت إغلاق الباب، وخرجت.

مرت على الغرفة الأخيرة، التي صعد منها صوتٌ هادئ يدندن:

«ما بين الذكر والأنثى
سمعت حكاياتٍ كثيرة
ولكثرتها لا تنسى

سمعت عن عشقٍ ودموع
ضحكاتٍ تلتمع تحت شموع
ورأيت جزعًا وخنوع
كلماتٌ أخرى لا تحكى

ما بين الذكر والأنثى
سمعت عن فرقٍ شاسع
ما أغربها من كلمات!
رأيت جسورًا، وتوابع
من يعبرها
رِفقته الآلام!

سمعت عن عدلٍ وتوازن
ورأيت خللًا وتحامل
سمعت عن قيدٍ يُكسر
ورأيت عيونًا بلهاء
وسمعت عن حدٍّ آخر
فرأيت عقولًا سوداء

ما بين الذكر والأنثى
علقت حكايتنا
وهي حكاية لا تنسى
لم تكُ عني وحدي يومًا
بل عنك وعن كل..»آه كل ماذا؟ كالعادة، القصيدة ركيكة!

ابتسمت نسيم لنفسها، كانت تحب القصائد التي يلقيها ذلك الصوت، لم تكن تحب مقاطعته، بل كانت تجلس إلى جانب الباب لتسمع ما يلقيه من قصائد، لكنها لم تملك المتسع من الوقت لتستمع لسائر القصيدة، فقد كان عليها أن تخلد إلى النوم، ملقيةً نظرتها الأخيرة على زوجها الذي طلب منها في مللٍ أن تسكت ريما الباكية، وبعد وقتٍ ليس بالقصير كما يراه كمال، نامت ريما، فنامت نسيم كذلك.

استيقظت نسيم في الخامسة لتحضر الفطور للعائلة، انتفضت من السرير حين شعرت بشيءٍ غريب، فنظرت نحو المرآة ورأت وجه رجلٍ باهت، أقسمت لنفسها أنها لو كانت رأته في الشارع لظنته متسولًا، تأملت جسمها قليلًا، لقد اختفت الانحناءات منه تقريبًا واستبدلت بعضلاتٍ قوية.

في قلق أيقظت نسيم زوجها، الذي فزع حين نظر إليها وظنها لصًّا، لكنها أقنعته أنها نسيم بإخبارها إياه بأمورٍ عنه لا يعرفها سواها، ثم ذهبت لتحضر الفطور، خرج علي أولًا من غرفته وقهقه في سخريةٍ حين رأى نسيم أمام الموقد وقال:

«ياه، أبي! لم أكن أعرف أنك تجيد الطهو!»

فقالت نسيم:

«لكنني لست أباك، أنا نسيم.»

نظر إليها علي مطولًا، ثم هز كتفيه قائلًا في ملل:

«تنكرٌ جيد ماما!»

هزت رأسها، بينما يوقظ علي أخويه ساخرًا من مظهر أمه، ضحك الصغيران بمجرد رؤيتها، منبهران بمظهرها ومعجبان ب«قدرتها الرهيبة على التنكر»، ثم ذهبت نسيم حتى توقظ من لم ترد أن تزعجه في اليوم السابق، فتحت الباب بهدوء، كان يتحرك بتوترٍ في سريره كالعادة، هي تعلم أنه لا يريدها أن تعرف أنه ظل مستيقظًا طوال الليل، فتحت الضوء لترفع الغطاء عمن تخطى خمس سنواتٍ بعد العاشرة، فمسح الأخير عينيه، ثم نظر إليها في تفاجؤٍ قائلًا:

«ماما! لكن ما الذي حل بك؟»

ضحكت نسيم قائلةً:

«كنت أنتظر رؤية رد فعلك أنت بالذات!»

صمتت قليلًا ثم سألته:

«هل تشعر بشيءٍ من التحسن يا نور؟»

«قليلًا، وماذا عنك؟»

«لا أشعر بفرق! يقول لي الطبيب إن علي الانتظار قليلًا.»

ابتسم نور قائلًا:

«لكنني أظن أنني عرفت الفرق، ألم تلاحظي ما حل بجسمك؟ يبدو أنه أعطاكِ عقارًا عجيبًا!»

ضحك الاثنان بقوة، حين صاح كمال في مرح:

«هيا يا امرأة، يكفي ضحكًا! أريد أن آكل حتى أذهب لعملي.»

زفرت نسيم في ألم، فربت نور على يدها بحنو، ثم قام يساعدها في تجهيز الطعام، ففعل الصغيران الشيء نفسه بسعادةٍ حين أدركا أن هذا مسموحٌ لهما، كانت ضحكات الأربعة تتعالى في المطبخ، بينما يجلس علي محدقًا بهاتفه المحمول، ويشاهد كمال الأخبار في ملل، وهو يطلب من نسيم بين فينةٍ وأخرى أن تسرع، أو أن تبعد الأطفال عن أمور المطبخ التي ستؤذيهم. 

لم تكن سوى دقائق بعد الإفطار، ودخول كمال للاستحمام، حتى صاح الرجل برعبٍ مناديًا زوجته، التي حين دخلت، وجدت أمامها أنثى يبدو أنها على قدرٍ من الجمال الذي بهت بفعل ضعف الجسد وقلة الاهتمام بالذات، وحدق الاثنان ببعضهما لحظات قبل أن يستوعبا ما وقعا فيه.

وحينئذ تذكر الاثنان قرارهما، أن يتبادلا الأدوار حتى يجدا الحل، نسيم ستأخذ دور كمال وستعيش باسمه، وسيفعل هو العكس، فماذا قد ينتج عن ذلك؟

ما بَينَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن