عندما أنهيت دراستي بجامعة علم النفس تم بعثي الى أحد المستشفيات النفسية لتقييم ادائي و تشخيصي للمريض وقتها كان هذا قانوناً جديداً.. لم أسعد به كثيرا لأني كنت أجهله و المزعج بالامر أن فشلت بالتقييم فقد أضطر الى أعادة السنة أو أعادة التقييم مجدداً لكن بمكانا جديد .و عندما وصلت الى "مستشفى لويس للامراض النفسية "شعرت بعدم الراحة قليلا فالجميع هناك كانو غير مريحين. حسنا ليس الجميع لكن الاغلبية ، شيئاً فشيئاً بدأت اعتاد عليهم و الغريب هنا لم يكن المرضى أو المستشفى، الغريب كان فتاة جميلة تتعالج بها. كنت أراها في كل صباح تسقي الازهار و هي مرتدية فستاناً ابيضاً مع قلادة فضية تحمل بها الانجيل مطرز بالخرز الازرق. كانت تبدو طبيعية لم أصدق للوهلة الاولى بأنها مريضة فهي كانت تبدو بخير حقا. شعرها البني و عيناها الصفراوتين، جسدها المتناسق، كلامها المهذب، اسلوبها اللطيف، رقة صوتها و تعاملها مع المرضى، ليس هذا فحسب بل أحيانا كانت تساعد الاطباء في تهدئة المرضى عن طريق الغناء لهم فيهدئون و ينامون بسرعة فصوتها كان كالملاك اي شخص يسمعه كان ليشعر بالنوم فورا. سألتُ الاطباء عنها و الممرضين و العاملين كلهم و جميع الاجابات كانت نفسها : لا اعرف لماذا هي هنا و ما بها . ساورني الشك بها أو لنقل الفضول الشديد عنها فبحثت عن معلومات تخصها و اكتشفت اشياءاً كثيرة. كانت مولوده في عام 1957 من شهر 5 لليوم 2 في وسط أجتماعي مريح لم تعاني من الفقر أو من اي أمراض وراثية أو معدية أرتادت جامعة الفن و تخرجت منها بتفوقو بعد ثلاث اشهر من تخرجها أتت بنفسها الى هنا لكي تتعالج. شعرت بالذهول حقا عندما عرفت بأنها أتت لوحدها هنا من دون أن يجبرها أحد، فالمعتاد هو جلب المرضى النفسيين بالقوة أو عن طريق أغرائهم بالاشياء التي ينجذبون اليها مثل قطع الحلوى أو السكاكر الملونة ..الخ . وقتها قررت أن أذهب اليها بنفسي أردت أن اكتشف سرها و عندما ذهبت وجدتها تقرأ كتاباً في الادب الفرنسي وكانت هادئة جداً ، مسالمة للغاية كما لو أن هالة كبيرة من الدفء و الاطمئنان تطوقها. لم أكن منتبهاً لشيء. لا لصوت العصافير أو لحركة الاشجار أو لبكاء بعض المرضى حتى سألتني : هل أتيت إلي لكي تعرف لماذا أنا هنا ؟ أرتبكت قليلاً حتى أجبتها لكنها سبقتني بالأجابة : عرفت بأنك بحثت عن معلومات تخصني و فتشت بماضيي من دون أذني لكني سأعفو عنك فقط لأن القليل من الوقت قد تبقى و سأدعك تعرف كل شيء تريد معرفته أن وعدتني بأنك لن تخبر أحدا الا عندما يحين الوقت المناسب ،لذلك هل تفعل ؟
من دون تفكير أجبتها( نعم). فحماستي و سعادتي لم تكن توصف في تلك اللحظة لاني أخيرا سأعرف سرها .بدأت بالقدوم إليها بشكلاً يومي و التحدث اليها لساعات طويلة. كان حديثها لطيفاً و سلساً، و كانت ذكية حقاً، شعرت بأنها فريدة من نوعها.فهي كانت تعرف متى تتوقف و متى تبدأ ،أحيانا لا أستطيع مجاراتها بالكلام لأنها كانت بليغة و ذو معرفة كثيرة بأمور الحياة الى أن جاء سؤالي الموعود لها : لماذا أنتِ هنا ؟أجابت ستعرف جواب هذا السؤال عما قريب
سألتها متى؟. نظرت الى الساعة و قالت : لم يبقى الا القليل و لكي أرضي فضولك هذا نحوي سوف أكتب لك الاسباب بورقة و بخط يدي هذا سيجعلك ترتاح كثيراً و أرتاح أنا ايضاً
كنت أتلطف بكلامها هذا لأني حقا شعرت بأني طفل صغير يتم تهدئته بقطع من الحلوى و هي كانت تضحك علي لم يكن يزعجني ضحكتها و لا حتى سخريتها مني لانها كانت تبدو ظريفة للغاية لدرجة إني اردت أحتضانها ، بعدما أنتهى حديثنا أستعدتُ للخروج من غرفتها لكن عندما نظرت اليها لكي أتمنى لها نوماً هنيئاً شعرت حينها بأن الزمن قد توقف لاني رأيتها تبكي فلم يكن بكاءا لشخصٍ عادي و لم تبكي بهستيرية بل بكت لأنها حبست دموعها لفترة طويلة للغاية حتى فاضت عيناها لتخرج كل ما بداخلها..اذكر بأنها جلست ساعتين تبكي ولم تتوقف ابداً حتى لدقائق. حاولتُ إيقاف دموعها و معرفة سبب بكائها لكنها كانت تزداد بكاءاً كلما أقتربت منها عجزتُ عن جعلها تتوقف و هذا أسوء شعور ما شعرت به في ذلك الوقت، فاحتضنتها بدت كعصفور أنكسر جناحه أو ككأسٍ قد وقع ارضاً فتحطم، جسدها البارد كانت كجثة تتوسل بالحياة لكي تعود اليها. الا أنها هدأت بعد أن غنيت لها على الرغم من بشاعة صوتي لكن الامر قد نجح حقا فبدأت بمسح دموعها و سألتني هل سوف تتذكرني دائما ؟
أجبتها بالطبع سأتذكركِ فكيف لي أن انسى فتاة بهذا الجمال تبكي بحضني ؟
كانت تضحك بعدها قامت بأحتضاني بقوة و همست لي بأذني: بقي القليل و ستعرف كل شيء..
فقلت لها أعرف بهذا لكن أن أردت الا تخبريني فلا تفعلي لا اريد أن اجبركِ على شيء.
سأخبرك بكل شيء لكن علي النوم اولاً ..تركتها تنام كالطفل و حتى في نومها بدت جميلة .ذهبت في صباح اليوم التالي الى المستشفى إلا أن الجميع رايتهم بحالة حزنا شديد حتى المرضى. لم أكن أعرف ما السبب إلى أن ذهبت اليها فوجدت الجميع فوق راسها شعرت بالقلق وبعدها بالخوف و من ثم بالصدمة لاني رايت جثتها على سريرها .شعرت بالعدم عندما رايتها بتلك الحالة، بشرتها بيضاء أكثر من المعتاد، شعرها لم يكن مرتباً ملابسها كانت مغطاة بالدماء لانها أنتحرت بقطع شرايين يدها، شفتاها التي بدت كلون الدم كانت تبدو جميلة فوق كل هذا، لكن جمالها كان باهتاً للغاية كوردةً جورية ذبلت بعد أن عانت، لكن بقت جميلة حتى بعد ذبولها.بدأ العاملين بغسلها و تنظيفها ليتم دفنها ثم جاءت عائلتها بعدما سمعت بالخبر و كانوا حزينين للغاية.. و على ذكر عائلتها فأنا لم ارهم الا قليلاً لكنهم كانوا طيبين و كانت تسعد بوجودهم .انتهت مراسم دفنها و الجو كان كئيباً فلم أشاهد شخصاً الا و كان يبكي عليها مع ذكرها بالخير اذاً لماذا انتحرت ؟ لماذا تركت الجميع هكذا ؟ ما هو السبب ؟عدت للمستشفى بعد أن أنتهت الجنازة كنت مشوشاً للغاية ضائع على الاغلب.شعرت بالوحدة كثيراً.. طرق احد العاملين علي الباب و أعطاني رسالة كانت هي من أوصته بأن يعطيها لي، جلست بغرفتي أتنهد بعدها أتفف و من ثم بدأت بالصراخ من دون سبب. لم اكن أريد أن اقرا رسالتها، هي لا تستحق ذلك، لا تستحق وقتي، هي حمقاء، تركت الجميع هكذا انا اكرهها بشدة ،حتى قلت بصوتا خافت لم يكن عليها تركي أنا .لا اعرف حقا ما الذي حدث لي و ماذا فعلت بي تلك الغبية أخذت رسالتها و ذهبت بها الى قبرها كان الجميع قد رحل عندما وصلت هناك و من ثم وقفت و شتمتها قلت لها بأني سأقرا رسالتها السخيفة بصوتا عالي..عزيزي روبرت: أعرف بأنك غاضب مني. ربما على الاغلب تكرهني الان، لكن أتفهمك كثيراً فلو كنت مكانك لشعرت أيضا" بنفس شعورك، لذلك لا بأس.أخبرتك البارحة بأني سأخبرك بكل شيء لذلك كن قويا و لا تبكي عندما تقرأ رسالتي او بعدما تنتهي منها اتفقنا ؟.
كنت في الثامنة عشر من العمر ،وقتها كنت أدرس في اخر مرحلة دراسية لي في المدرسة. كل شيء بحياتي كان مثالياً.. عائلتي، اصدقائي، دراستي، حسنا ليس مثالياً لكي أكون صريحة معك، فالمثالية لا وجود لها و الكمال للرب فقط. لكن كانت حياتي رائعة لم يكن ينقصها الا الحب فوجدت نفسي واقعة بحب رجلا ً لا يعترف بالحب لان تجربته القاسية مع الحب كانت فضيعة للغاية.بعدما خانته حبيبته لعدة سنين و هي معه و لم يدرك هذا إلا بعدما كشفها تخونه مع صديقه. كان محطماً للغاية فساعدته و وقفت بجانبه على الرغم من شراسته معي لأنه كان خائفاً من أن أتركه يوماً.. كنا نقضي ساعات طويلة بالحديث، و نلتقي دائماً حتى بدأت أهمل دراستي و كل شيء في حياتي بشكلاً تدريجي إلى أن أصبح هو كل همي،و كل شيء حرفياً خسرت سنتين من عمري و أنا أصقله حباً و أغذيه أهتماماً إلى أن جاء في احد الايام وكان ثملا" للغاية و اراد مني أن اقضي الليلة معه اصر كثيرا، فوافقت لاجله و كنت مستمعة للغاية و انا معه في تلك الليلة، في صباح ذلك اليوم كان مستلقياً بجانبي من دون صوت أو نفس حاولت أيقاضه، فعل شيئاً ما، فأتصلت بالاسعاف لكن دون جدوى، أخبروني بأنه قد أخذ جرعة كبيرة من المخدارات و لابد من أنه قد أجهد نفسه كثيراًحتى أنتشرت بجسمه بالكامل مما أدى الى توقف قلبه. شعرت بأني أنا السبب لم يكن علي الموافقة على فعل ذلك معه كان علي رفضه، لكن حقاً لم يكن بيدي فلمسته كانت مغمورة بالحنان حتى شعرت بأني سأنفجر من شدة عذوبتها و بعد أنتهاء متعتنا الغرامية بدأ بالبكاء ولم يهدأ إلا بعد ساعتين حتى أحتضنته فتوقف و مسح دموعه، بعدها سألني هل ستتذكرينني دائماً ؟ أجبته : نعم بالطبع.. فهمس بأذني: اذاً لم يبقى إلا القليل يا حبيبتي .سألته: ماذا تقصد؟
أجابني : أحبكِ كثيرا لنذهب إلى النوم الان فأنا متعب ، غدا سيكون يوماً جميلاً للغاية لأنكِ ستكونين اول شخص استيقظ على وجودهِ و أن لم تتمكني من العيش من دوني خلال السنتين القادمتين فعليك بالقدوم الي فأنا بدأت اشتاق اليكِ و أنت معي و انا على قيد الحياة . لم أفهم شيئاً مما قاله فأحتضنته و نمت حتى استيقظت و وجدته ميتاً ، لم أستوعب شيئاً ابداً ، وبقت حالتي هذه لسنتين ايضاً، الكثير حاولوا مساعدتي لكن دون جدوى إلى ان أخذت قراراً بأرجاع حياتي الى سابق عهدها ،درست كثيراً و اجتهدت حتى دخلت الجامعة و أنهيتها بتفوق، كونت صداقات عدة و ارتبطت بأحدهم ايضاً و لكن كل شيء لم يكن يفلح معي.عرفت هذا في اللحظة التي أدركت بها بأن الحياة انتهت عندي اثناء موته. بعدها ذهبت "لمستشفى لويس للامراض النفسية" لأني أنا من كنت أزوره بهذه المستشفى بعدما خانته حبيبته الاولى، كان يبدو مثلي ينتظر أحدهم لكي يخلصه من جنون قلبه و ليس عقله فوجدني أنا و انقذته الا أنه لم يشفى تماما فأنهى عذابه بنفسه.، غرفتي التي كنت تأتي اليها كان هو يعيش بها، أصررت على أختيار غرفته لانها كانت تحمل شيئاً منه. كنا نقضي اغلب اوقاتنا هنا، فكانت تساعدني كثيراً على بقائي متزنة و هذا ما جعلني أسعد كثيراً و اشعر بالراحة الكبيرة لاني كنت استشعر بوجوده. كنت مثله حقاً أنتظر أحدهم بأن ينقذني مثله حتى أتيت أنت يا روبرت لكنك أتيت متأخراً للغاية فالوقت الذي مات به حبيبي هو نفس الوقت الذي قررت فيه أن أموت اي بالضبط بعيد ميلادي 5/2 عند الساعة 3 فجراً. أتعرف لو أتيت مبكراً لكنت الان معك لكن القدر شاء أن يجعلك تأتي متأخراً .ايضاً تذكر بأني دخلت هنا ليس لان عقلي قد جٌن بل قلبي هو الذي قد جَن لأني أنتظرت بأن يتم أنقاذي و لم يات أحد و لم أستطع ألاستمرار بحياتي مثلما قال فذهبت اليه و ان كان مكانه الان الجحيم فأنا راضية ما دمت معه .أود فقط شكرك على أحتضانك لي لأني حقاً شعرت بأنه هو الذي يحتضنني فأنت و هو تمتلكان نفس الشكل تقريباً ،هذا ليس غريباً فأنتما أخوة ربما لم تتعرف علي بعد لكن أن بحثت بمذاكرت و صور أخوك ستجدني هناك فهو قد جمعها كلها بصندوق موجود في غرفتي في المستشفى. يمكنك أن تاخذه و عندها ستعرف أكثر مما تريد معرفته ..
انيا..صدمتٌ عندما عرفت بأنها حبيبة أخي دانيال فلم أكن أصدق أبداً بأن تلك الفتاة التي لطالما تحدث عنها أخي من دون أن يذكر اسمها او معلومات عنها تكون هي انيا و في نفس الوقت كنت أبكي لا أدري لمَ لكن بعد عدة أيام أكتشفت بأني قد وقعت في حبها وبكامل قواي العقلية و بأنها حقا كانت حبيبة اخي.. بعد أن رأيت صورها معه شعرت بالحزن لهما وبالأسى لنفسي و بالكره الشديد للقدر و بالقرف من كل شيء يحيط بحولي حتى حان وقت تقييمي و كان يجب علي أن أعد تقريراً لتقديمه فكتبت كل شيء شعرته و عرفته بهذه المستشفى و اخر سطور لي كانت :
" الاسوء من جنون العقل هو جنون القلب فأن تبقى سالم العقل و مجنون القلب فهو يعني حياة كالجحيم تنتظرك و ليس كل من يدخل لمستشفى الامراض النفسية هو فاقد لعقله بل فاقد لقلبه او الاثنين معا "
و أرسلته من دون أي اهتمام للنتيجة التي ظهرت بعد أسبوع مبشرةً بنجاحي الذي فقدت الاحساس به منذ أن أدركت بأن هذه الحياة ليست للجميع .
Mic.Manar