انحنت فوق سطح السيارة، هواء مدينة ليلية مزدحمة يداعب وجهها، نظرت عبر الزجاج الأمامي إلى السائق الذي حدَّق " عبرها "، نحو أفق المدينة الضيق.
تمسكت، فهي تعلم ما الذي سيحدث تاليًا، أوه، ربما ليس تمامًا!
رأت أن السائق يقبض على عجلة القيادة، وتزاحمت المشاعر في عينيه، واختلطت مع مشاعرها.
- " اخرسي! اخرسي! "
- " أبي!! "
حولت نظرها إلى الفتاة الرقيقة في المقعد الخلفي، التي تحاول التماسك وسط سرعة قيادة والدها عبر المدينة.
فكرت سريعًا، ما اسم الابنة؟ ما اسم الابنة؟ حاولت التذكر، ما اسمها يا ربي؟
نور..؟ نورين؟ لو... لوريل!
- " أبي ما الذي يحدث؟ لماذا يتبعنا رجال الشرطة؟؟" قالت لوريل، متجاهلة نظرات القلق في عيني والدها والتي تبدلت بين الطريق والمرآة الأمامية، وتناهى إلى سمع الفتاة الغامضة صوت إنذارات سيارات الشرطة، وانعكست على جسدها أضواءها المسببة للصداع.
على حين غرة، انعطفت السيارة، متسببة بارتطام رأس لوريل بالنافذة، لكنها سرعان ما استعادت توازنها: " أبي! ستقتلنا! "
على ذكر الارتطام، لم تتحرك الفتاة الغامضة إنشًا من مكانها إثر الانعطاف.
- " أبي! " أصرت الابنة حينما ضغط والدها على المكابح، واندفع جسدها للأمام، واستطاعت من زاويتها تلك رؤية سيارات الشرطة وهي توشك على إحاطتهم، لكن والدها عاد وانطلق بالسيارة، مصطدمًا بـ"شيء ما"، لم تهتم الفتاة الغامضة بماهيته، ما كان يهمها حقًا كان أن صوت الاصطدامات البسيطة هذه ينبعث إلى أذني لوريل.
- "أها! بقي تفصيل أخير!" فكرت الفتاة الغامضة، واتسعت ابتسامتها حينما حدق الأب إليها برعب، مجددا؛ "عبرها".
و"عبرها" أيضًا، انطلقت رصاصة، شعرت بقوتها وهي تخترقها إلى رأسه، ربما أطلقت من مسافة خمس مئة متر؟ تفصيل صغير تحتاج إلى أن ترعيه انتباهها.
على أية حال، لم تقتلها الرصاصة بكل تأكيد، ولذا فقد انحنت إلى الأمام أكثر، ورأت بحركة بطيئة ملامح الرعب وهي تملأ لوريل، رأت كيف استقرت الرصاصة في رأس والدها، وعبر لمحة من أضواء المدينة التي لم يكن جسد الفتاة الغامضة ليحجبها، رأت اللونين المختلفين في أعين الأب الجاحظتين.
وتسارع الوقت حولها مجددًا، انعطفت السيارة، وانكسر الزجاج، اندفعت لوريل من اتجاه لاتجاه، وقبل لحظة من انقلاب السيارة، قفزت الفتاة الغامضة نحو الهواء، وبقيت هناك.
لم تترك أية تفصيل، رأت كيف تناثر الزجاج حول السيارة، كيف توقفت سيارات الشرطة تباعًا، كيف جثت لوريل بوجهها الدامي على جثة والدها متفحصة إياه بصدمة، باكية إياه.
رفعت الفتاة الغامضة رأسها نحو سماء المدينة، واستلقت في الهواء، بدأ الوقت بالتسارع حولها أكثر، رأت تعاقب الشمس والقمر، الليل والنهار، وتبدلت الفصول حولها، قبل أن تنهض أخيرًا، وتحلق نحو موقع جديد وسط ضوء النهار هذه المرة.
هناك، رأت لوريل، تبدو أكبر سنًا ببضع سنوات، لكنها تعلم تمامًا أن بضعة أشهر هي ما مرت وحسب، رأت الندبة الطولية على صدغها، وكيف جلست الفتاة جلسة صبيانية على أريكة جلدية طويلة في مكتب فاره في واحدة من أعلى ناطحات سحاب المدينة، على ركبتها استدت حقيبة ظهر سوداء كملابسها، وفي يدها .. وفي يدها اليسرة، زجاجة صغيرة، فيها مياه ملونة، ربما .. زرقاء؟ لا! خضراء مزرقة، لون لا يعجب الفتاة المراقبة كثيرًا، لكنه ضروري.
في داخل الزجاج، طفت عين في السائل المحنِّط، عين عرفت الفتاة الغامضة لونها بوضوح رغم اللون المقرف الذي يغلفها، لأنها رأته قبل لحظات قصيرة في رأس الرجل المرحوم، أرجواني!
رفعت لوريل الزجاجة نحو ضوء الشمس، وقالت بصوت متعب للرجل الكهل الجالس خلف المكتب: " قتل والدي بسبب هذه لأنه عرف أسرارًا عنها لا أعرفها، لن أضحِّي. "
- " طبعًا، طبعًا! ولكن عين الذئب..." قال الرجل الكهل.
- " عين الذئب يجب أن تحمى! " قاطعته لوريل، وأومأت الفتاة الخفية لها بحماس رغم معرفتها أنها لا تراها.
- " عين الذئب يجب أن تدمر! " قال رجل شاب ظهر فجأة من خلف الباب، التفتت لوريل إليه جزئيًا، لكن ملامحها لم تتغير.
- " لا! لدي حل آخر.."
نظر إليها الرجلان بفضول، وقالت لوريل سطرًا أخيرًا: " سآخذها إلى ...."
*******
- " تبًا، شتمت الفتاة الغامضة حينما دخل الأستاذ المحاضر إلى القاعة، كانت قد وصلت إلى حالة من الانغماس الملهم في كتابة روايتها ولم ترد أن تنزع منه الآن.
وضعت القلم بغضب، فالتفت بعض زملائها إليها باستغراب، لكنها وحينما أدركت أن الأستاذ لا يلاحظها، تناولته من جديد، وعلى وجهها ابتسامة خبيثة.
- " لن ينزع مني أحد متعتي! "
وانحنت مجددًا فوق مذكرتها المهترئة لتكمل أحداث القصة.
يا له من يوم نمطي في حياة كاتب.
*******
أنت تقرأ
{ الفتاة التي لا تُرى، تروي }
Short Storyانحنت فوق سطح السيارة، هواء مدينة ليلية مزدحمة يداعب وجهها، نظرت عبر الزجاج الأمامي إلى السائق الذي حدَّق " عبرها "، نحو أفق المدينة الضيق. تمسكت، فهي تعلم ما الذي سيحدث تاليًا، أوه، ربما ليس تمامًا!